يتأثر النفط ، خلافا للسلع الاخرى بدرجة كبيرة بالعوامل الجيوسياسية والتي فعلت فعلها في السنوات القليلة الماضية بدءا من الربيع العربي عام 2011 والخشية من أن يؤدي ذلك الى توقف الإمدادات ، لا سيما الإمدادات المارة عبر قناة السويس أو مضيق هرمز انتهاء بتهدد « الحركة الحوثية» في اليمن بغلق مضيق باب المندب . وجاءت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا يوم 15 تموز /يوليو 2016 لتؤدي الى توقف حركة السفن عبر « مضيق البوسفور لوقت قصير ، وهو ما ذكر العالم بالاهمية الكبيرة و والمتزايدة لتركيا كممر لعبور السلع الاولية بين روسيا وأسيا الوسطى واوروبا.
يمكن تأطير الاهتمام بامن الطاقة وقضاياها المتشعبة من « الناحية التاريخية الى عشية الحرب العالمية الاولى عام 1914حين أتخذ الزعيم البريطاني « ونستون تشرتشل» وكان في حينها وزيرا للحربية ، قرارا بتحويل طاقة الاسطول البحرية التي كانت نعمل بالفحم الى العمل على النفط الخام لجعل الاسطول البريطاني أسرع وافضل من نظيرتها الالمانية.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاهتمام المتصاعد بأمن الطاقة ، ولا شك في ان مرد الاهتمام بهذا الموضوع لا يعزى فقط الى اختلال التوازن بين عرض الامدادات والطلب عليه ، بل يمكن أن تعزى كذلك الى ان أمن الطاقة أصبح مرادفا للتهديدات الارهابية ، وأبلغ دليلا على ذلك ما قامت به « داعش بعد سيطرتها على محافظة نينوى في العراق وأعلانها «دولة الخلافة»المزعومة من سيطرتها على مراكز التكرير في بيجي والشرقاط.
ما هدد بتوقف الانتاج النفطي العراقي اضافة الى حالة «عدم اليقين « في بعض الدول المصدرة ، والى السباق والتنافس الجيوسياسي وحاجة الدول للطاقة لتعزيزالنمو الاقتصادي ولعل الطلب المتعاظم في الصين لتعزيز عملية النمو الاقتصادي فيها يعد من أبرز الامثلة على ذلك لا سيما وأن الصين كانت وحتى وقت قريب – مطلع التسعينيات – مصدرا صافيا للنفط ، بيد أن ذلك تغير جذريا بدءا من عام2004 مع ارتفاع الاستهلاك على النفط فيها الى أكثر من 7 ملايين برميل يوميا ، متجاوزة في ذلك اليابان ، التي كانت حتى وقت قريب ثاني أكبر مستهلك في العالم .
الى ذلك ، فأن العالم أخذ بالاعتماد على مصادر طاقة من دول مازالت نظم الامن فيها قيد التطوير ، وتبرز بين الآونة والاخرى خلافات سياسية تؤثر بنحو غير محسوب أو أومتوقع على تدفق الطاقة وانسيابها ولعل مثال على ذلك ما حصل في مطلع عام 2008 من خلاف بين روسيا الاتحادية واوكرانيا حول تسعير الغاز الطبيعي والذي أفضى الى توقف أمدادات الغاز المتجهة الى أوروبا ولا سيما أمداداتها الى بولندا والمانيا.
ولا تتوقف تجليات أمن أمدادات الطاقة عند هذا الحد فقط بل تمتد لتشمل مع النمو المتسارع في تجارة الطاقة ما يعرف ب «نقاط الاختناق « Choke Points عبر الممرات البحرية ، ومن اهمها مضيق هرمز قبالة الشواطئ الاماراتية التي يمر من خلالها أكثر من 17 مليون برميل يوميا أو ما يعادل 40% من تجارة النفط البحرية وهناك نقاط اختناق أخرى – والتي لا تقل اهمية عن مضيق هرمز ومنها كل من مضيق مالقة الذي يربط شبه القارة الهندية بشواطئ المحيط الهادي اذ طالما تعرضت الناقلات البترولية العابرة خلالها لعمليات قرصنة ، ومضيق « باب المندب « الذي يربط بحر العرب بالبحر الاحمر ومضيق « البوسفور»
الذي يربط البحر الاسود وبحر قزوين بالدول المطلة على شواطئ البحر الابيض المتوسط .
الأهمية الاستراتيجية
لمضيق هرمز
اثار اعلان دول الاتحاد الاوروبي في نهاية يناير 2012 فرض عقوبات اقتصادية جديدة على أيران على خلفية ملفها النووي المثير للجدل بما في ذلك حظر الواردات النفطية الايرانية ، اثار رد فعل أيراني غاضب بالتهديد بالرد على هذه العقوبات بإغلاق مضيق هرمز الحيوي أمام الملاحة الدولية ، وهو تهديد في حال تنفيذه ، ستكون له تداعيات وخيمة أذ سيعني ذلك حرمان العالم من 17 مليون برميل يوميا من النفط الخام الذي تمر خلاله على ظهر الناقلات العملاقة ، ناهيك عن الاضرار البالغة التي ستلحق بالصادرات الخليجية والتي يمر نحو 80%منها عبر ذلك المضيق، ولا شك في أن تنفيذ التهديدات الايرانية بإغلاق المضيق يرقى الى مستوى إعلان حرب على العالم وفقا للقانون الدولي .
غلق المضيق والبدائل المتاحة
يعدد مضيق هرمز الذي يقع بين سلطنة عمان وايران والذي يربط الخليج العربي ببحر العرب ، أحد اهم الممرات المائية الاستراتيجية في العالم ، ويبلغ عرض المضيق 60 كيلو متراً تعبره يوميا الناقلات النفطية العملاقة التي يزيد وزنها عن 150 ألف طن ، والتي تصل في ساعات الذروة الى ناقلة واحدة كل 6 دقائق أي بمعدل يومي قدره 30 ناقلة .
ويمثل حجم النفط الذي عبر المضيق عام 2015 ما يعادل تقريبا35%من تجارة البترول البحرية ، وهو ما يعادل كذلك 20% من أجمالي التجارة البترولية في العالم ، وتعد قارةأسيا الوجهة الجغرافية الرئيسة للنفط العابر من خلال المضيق اذ استأثرت بأكثر من 85%من الصادرات البترولية كان حصة الاسد فيها للاسواق النفطية في اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية.
وقد دفعت التهديدات الايرانية بأغلاق مضيق هرمز امام ناقلات ، دول مجلس التعاون للتفكير جديا في استخدام خطوط الانابيب كبديل لذلك :
1- المملكة العربية السعودية: يعد خط Petroline أحد أهم الخطوط البديلة في حال غلق المضيق ، ويعرف أيضا بشبكة انابيب الشرق الغرب ، ويبلغ طوله 757 ميلا حيث يربط ابقيق في الشرق بميناء ينبع على البحر الاحمر وبطاقة استيعابية قدرها 5 مليون برميل يوميا.
2. الامارات العربية المتحدة : فقد أعلنت عن بدء تشغيل خط أنابيب لنقل النفط لديها من حقول حبشان في امارة أبو ظبي الواقعة غربي الخليج ، الى مرفأ الفجيرة على خليج عمان شرقا دون المرور في مضيق هرمز بطاقة تصل الى 1.4 مليون برميل يوميا يمكن زيادتها الى 1.8 مليون برميل يوميا كحد أقصى ، الامر الذي سيتيح تصدير 70% من أنتاج الامارات النفطي عبر الفجيرة دون المرور بمضيق هرمز المحفوف بالمخاطر.
3- العراق: سيتحمل العراق الوزر الاكبر في حال إغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية لا سيما وأن أكثر من 90% من إجمالي صادراته النفطية تتم عبر الخليج العربي.
وفي المقابل فإن صادراتها من المنافذ الشمالية (كركوك)عبر ميناء جيهان التركي على البحر الابيض المتوسط لا تمثل سوى 10%من إجمالي صادراته النفطية .
وهناك محاولات لاعادة احياء عدد من الخطوط المعطلة منها خط بانياس على ساحل البحر الابيض المتوسط ، بيد ان ما تشهده سورية اليوم من قلاقل تحول دون تحقيق ذلك في الوقت الراهن .
كما ان اعادة احياء الخط الممتد الى ميناء ينبع على البحر الاحمر والذي تصل طاقته الاستيعابية الى 1.650 مليون برميل يوميا والمغلق منذ غزو الكويت عام 1990 ، هو الاخر بعيد المنال حاليا لما يعتري العلاقات العراقية السعودية من فتور.
ويستخدم العراق بنحو محدود اسطوله من الصهاريج لنقل النفط الى الاردن والتي يمكن زيادة عددها كأحد البدائل المتاحة في حال اغلاق المضيق امام الملاحة الدولية.
وهناك توجه لانشاء خط أنابيب يربط مدينة البصرة في جنوب البلاد بميناء العقبة الاردني وبطاقة انتاجية تصل الى مليون برميل يوميا .
إيران وسياسة حافة الهاوية:
ان ما يشهده العالم اليوم من توتر بين قطبي الرحى في الخليج العربي : ايران و السعودية يعيد الى الذاكرة (سياسة حافة الهاوية) policy of brinkmanship التي سادت في ستينيات القرن الماضي إبان أزمة الصواريخ في كوبا ، حين أعلن زعيم الحزب الشيوعي خروتشوف (في خريف عام 1962) عن نشر صواريخ نووية قبالة شواطئ فلوريدا ، ما حدا بالرئيس الاميركي ( جون كنيدي) الى أصدار بيان شديد اللهجة أدى في نهاية المطاف الى نزع فتيل الازمة بعد أن حبس العالم أنفاسه لايام خشية اندلاع حرب نووية تأتي على الاخضر واليابس.
لكن البعض من المراقبين ينظرون الى التهديد الايراني بغلق المضيق بإعتباره مجرد (جعجعة) Sabre Rattling يراد منها كسب تأييد الجماهير الايرانية والتغطية على المشاكل الداخلية التي تعاني منها بلاده.
أما من الناحية العملية ، فأن لدى أيران القدرة العسكرية على خلق قدر كبير من الاضطراب في مضيق هرمز وذلك على المدى القصير ، من خلال توظيف واستخدام الفرقاطات والزوارق الحربية الصغيرة ذات السرعة الفائقة والمزودة بالصواريخ ، بالاضافة الى قدرتها على تلغيم الممرات مما يعيق الانسياب السلس للسفن العابرة .
ويعيد هذا السيناريو الى الاذهان (حرب الناقلات) التي اندلعت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي إبان ذروة الحرب العراقية – الايرانية .
بيد ان قدرة ايران على غلق المضيق لفترات زمنية طويلة لن يكتب لها النجاح لاسباب عديدة ، فعلى الرغم من امتلاكها لثلاث غواصات روسية الصنع ، الا أن الوجود العسكري البحري الامريكي تحت قيادة الاسطول الخامس الامريكي(ومقره البحرين) يجعل تنفيذ تلك التهديدات صعبا للغاية ، ناهيك عن القواعد العسكرية المساندة في المنطقة كقاعدة العديد الجوية ومقر القيادة المركزية الوسطى للولايات المتحدة CENTCOM في قطر.
الى ذلك فأن غلق المضيق سيثير حفيظة حلفاء ايران الاسيويين لا سيما الصين ، العضو الدائم في مجلس الامن ، والتي تعتمد بشكل كبير على وارداتها النفطية الايرانية .
والاهم من كل ذلك هو أن غلق المضيق سيؤدي الى حرمان ايران من تصدير نفطها للخارج اضافة الى حرمانها من وارداتها الاستراتيجية لا سيما وارداتها من المواد الغذائية والسلع الرأسمالية.
إيران لا تمثل التهديد الاكبر لتجارة الملاحة البحرية
وفقا لمجلةThe Economist المرموقة فأن أيران لا تمثل التهديد الاكبر لتجارة الملاحة البحرية في دول المنطقة ، بل أن الخطر الداهم قد يأتي من « الجماعات دون الدول « « “Non – State Actorsومنها جماعة « أنصار بيت المقدس « في شبه جزيرة سيناء موقع السكان البدو الذين يشكون التهميش والتي تتمركز الى الشرق من قناة السويس . وقد شوهد الجهاديون في اكثر من مناسبة قبل عام 2013 في فيلم فيديو يصورهم وهم يطلقون صواريخ RPG المحمولة على الكتف في وضح النهار على السفن وهي تعبر قناة السويس .
أن نجاح أي محاولة إرهابية لإغراق سفينة ، لا سيما سفن الحاويات سيفضي الى غلق القناة لاسابيع عدة وهو ما سيجبر السفن للالتفاف حول رأس الرجاء الصالح الامر الذي سيضيف أكثر من 4 الالف كيلو متر للرحلة المنطلقة من السعودية للولايات المتحدة وما سيترتب عليه من أرتفاع في التكاليف تضاف الى فاتورة الشحن .
خلاصة القول ، أن انغماس العديد من دول المنطقة في لجج حرب أهلية لم يفت في عضد المسؤولين الحكوميين من أبقاء الممرات البحرية مفتوحة بما يؤمن المرور الامن للناقلات البترولية من دون توقف لا سيما الناقلات المتوجه الى أسيا الشريك الرئيسي لدول الخليج النفطية ، أضافة الى تأمين وصول الامدادات الى نصف الكرة الشمالي بنحو منتظم بما يعزز أمن الامدادات التي لم تتوقف حتى في ظل أحلك الظروف قتامة ، وربما كان الاستثناء الوحيد لذلك هو الحظر النفطي العربي عام 1973 أبان حرب أكتوبر حين أشهر العرب سلاح النفط بنحو ناجز في ظروف تاريخية لن تتكرر.
* اقتصادي عراقي متخصص في شؤون الطاقة