أحمد حيدري
سيكتب في 2006 «حافظ يرويه كيارستمي» وسيكتب بعد سنة «سعدي صارخاً من يد الذات» وسيكتب الهايكو ويصدر ستة كتب في التصوير الفوتوغرافي، وسيقتبس من الشاعر سهراب سبهري والشاعرة فروغ فرخزاد عناوين لأفلامه، ولن يتوانى ليقدم وجبات سينمائية بطعم الشعر أو الكرز لمشاهده. لكن من أين بدأ هذا الرجل المتمسك بنظارته المعتمة أينما حلّ ورحل؟
سنعود إلى العام 1970، «الخبز والزقاق»، أول فيلم لكيارستمي. فيلم شبه صامت، بطل وكلب وبطل ثانٍ مهمته أصعب من البطل الأول.
مَن منا لم يعش المخاوف التي يرفضها الآخرون، مهما كانوا قريبين منا، والمخاوف التي نرويها ولكن لا أحد يسمعنا، لأنّ المهمة التي يرمونها علينا أهم. مهام الأطفال الصباحية المعجونة بالمخاوف. موسيقى مُفرحة وطفل يمشي في الأزقة الضيقة مُوحياً أنه يملكها كلها ويعرف أسرارها، فجأة يجد طريقه مغلقاً بكلبٍ رابضٍ يتحين فرصته الصباحية، فينبح. إذاً تعمل المخاوف هنا، القصة التي لو رويناها لأهلنا لن يسمعونا، أو لن يعتنوا بها، نحن والكلب وزقاق ضيق وظلال النباح الأسود. يحاول بطل الفيلم المرور ومع كل حركة ينهض الكلب نابحاً. مَن يملك حقّ العبور إلى الجهة الأخرى ومن أمام المتمرن جيداً على إيقافنا وإعادتنا من حيث جئنا؟
تمرّ أربع حمير مسرعة، ثم راكب دراجة مسرعاً، السرعة هي طريق النجاة. لكنه الصباح والمارة قلّة وإذا مروا في زقاق فهم مسرعون، البطل يداخله النوم. يمر رجل طاعن في السن يضع سماعة على أذنه ويدخل بيته قبل الوصول إلى الكلب. والآن مع اقترابه من الجالس والمتحين للفرص يتقدم، الطفل يسير بقرب جدران تبني ظلالها (وهي نفس الجدران التي سيكتب عنها فيما بعد كتاب» الجدران» وهو كتاب صور التقطها عباس كيارستمي)، يتبادلان النظر، حانت لحظة مواجهة العبور من الفارض لهيبته، يشتد النباح وينهض الكلب…
كانت مهمة الطفل إحضار الخبز، الخبز الحجري الذي يعدّ في فرن مملوء بالحصى لتفرش عليه العجينة وتخرج الخبزة الكبيرة مغطاة بالحصى. تبدأ علاقة جديدة مع المخاوف، تتغير إلى صداقة خفيفة بين البطل الخائف والكلب الرابض، بعد أن رمى له خوفاً قطعة خبز. بات الخوف يمشي وراء الخائف حتى وصل بيته وأغلقت أمه خلفه الباب. خلف الباب ينفجر حنين الكلب ولا يريد مفارقة صديقه الجديد وعدوه القديم، يعوي وهو يحرس الباب المغلق. في آخر لحظة يظهر بطل آخر، هو نفس البطل الذي ستكون مهمته أصعب، طفل/بطل آخر يحمل كيساً ووعاء يبدو ساخناً، قد يكون فيه آش أو هريس، مع رفع رأسه يرتد للخلف بقوة…كات.. انتهى الفيلم مع صورة ثابتة للارتداد.
قضى المخرج فترة طويلة باحثا عن بطله حتى وجده، بعد أن حصل على فكرة الفيلم من أخيه (تقي كيارستمي). طال مشهد دخول الطفل لبيته 40 يوماً، ويجيب الشاعر/المخرج طاقمه الذي فقدَ صبره، بكل برودة أعصاب: أريد المشهد دون قطع، أريده دون قطع (كات). وهذا ما جعل مصوّر الفيلم «مهرداد فخيمي» يغضب ويترك التصوير، ظاناً أنّ المخرج لا يعرف أصول السينما وهي ليست قصيدة تتحمل طول الانتظار على طاولة.
استقبل الجمهور والنقاد الفيلم بترحيب كبير، فمخرج الفيلم اهتم بالتفاصيل عبر مونتاج جيد، مع مراعاة عناصر مثل: حجم المشهد وارتفاع الكاميرا وحركة الممثل ووضع كل شخصية حيث يجب أن تكون في مساحات ضيقة.
يدخل الفيلم ضمن الأفلام التعليمية، كيف يتعامل التلامذة مع مخاوفهم، أو بعبارة أخرى، كيف نفعّل خصوصية إنسانية للوصول إلى هدفنا: الاعتماد على النفس. والفيلم كان بطلب من «معهد التنمية الفكرية للأطفال» الذي سيطلب منه المزيد من الأفلام التعليمية عن الطفل، بعد وفاة كيارستمي أُقيم أكثر من 200 فعالية تكريم له في المهرجانات الداخلية والخارجية، وهذا العام سيُقام له حفل تكريم بمسقط أعماله، المهرجان الدولي لأفلام الأطفال واليافعين المقام في إصفهان ۳۰ حزيران 2017 ، فلا يمكن معرفة عالم كيارستمي السينمائي أو الشعري، من دون قطع مسافة تمتد من 1970 (فيلم الخبز والزقاق) حتى 1989 (فيلم الواجب الليلي). وهي مسافة يقطعها الطفل/الطفلة كأبطال يقبضون على مخاوفهم.
قبل كتابة النصّ سألتُ بعض الأصدقاء والصديقات العاملين في مجال التعليم عن أفلام كيارستمي التي خصصها للطفل، فأجابوا: كانت داعمة لنا، هي مخيلتنا التي عشنا عبرها طفولتنا. نحبّ هذا الرجل الغامض.
هذه القصيدة/الفيلم متاحة ولا تحتاج إلى ترجمة تحت عنوان «نون وكوچه» ولن تأخذ الكثير من الوقت، ليست سوى عشر دقائق.