ميشيل هيس*
إن مستقبل مناخ العالم سوف يتحدد في مدننا. والواقع أن المناطق الحضرية تطلق بالفعل نحو 70 % من الانبعاثات العالمية من ثاني أكسيد الكربون، ومن المرجح أن تتزايد هذه الحصة في العقود المقبلة، مع انتقال المليارات من البشر إلى المدن، ومع دفع التوسع الحضري للنمو الاقتصادي العالمي. ومن وجهة نظر تغير المناخ والنمو، يمثل صعود المدن تحدياً وفرصة في آن.
إن علاقة الاتصال بين التوسع الحضري وحماية المناخ هي البنية الأساسية. ذلك أن رفع مستوى البنية الأساسية في المناطق الحضرية من الممكن أن يدفع عجلة النمو الاقتصادي ويحد من الانبعاثات الكربونية في نفس الوقت. ولكن كيف تتحمل مدن العالم تكاليف بنية أساسية جديدة وأكثر رأفة بالبيئة؟
النبأ السار هنا هو أن رؤساء المدن ومحافظيها ــ في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء ــ لم يعد لزاماً عليهم أن ينتظروا حكوماتهم الوطنية لعقد اتفاق عالمي بشأن المناخ. فالآن تتولى مدن العالم الكبرى ــ ليس فقط كوبنهاجن ولندن وميونيخ، بل وأيضاً جوهانسبرج وريو دي جانيرو وشنغهاي ــ رسم برامجها البيئية الخاصة بها. الواقع أن هذه الخطط طموحة بدرجات مختلفة ــ تتراوح بين قائمة تمنيات و أهداف قابلة للتنفيذ ــ ولكن الاتجاه نحو الحياة الحضرية المستدامة واضح.
وإذا كان للمدن أن تنجح في الحد من بصمتها الكربونية، فسوف تكون في احتياج إلى استثمارات ضخمة في بنيتها الأساسية. إن ثلاثة أرباع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تطلقها البلدان الغنية تأتي من أربعة أشكال فقط من البنية الأساسية: توليد الطاقة، والمباني السكنية والتجارية، والنقل، وإدارة المخلفات والنفايات. ومن هنا فإن أي برنامج يهدف إلى تحقيق الاستدامة الحضرية لابد أن يتضمن التحول إلى الطاقة المتجددة ومحطات الطاقة والمحطات الحرارية المجمعة، وزيادة أعداد الحافلات والقطارات العامة، وابتكار مركبات خاصة أكثر نظافة، وتحسين العزل الحراري في المكاتب والمستشفيات والمجمعات السكنية، وغير ذلك من البنايات، وابتكار سبل أكثر ذكاءً في إدارة النفايات والمياه ــ إلى جانب أمور أخرى كثيرة.
والاستثمارات في البنية الأساسية ضرورية أيضاً للتعامل مع التوسع الحضري المستمر: فبحلول عام 2050، قد يعادل عدد البشر الذين يقطنون المناطق الحضرية عدد سكان العالم الآن. وسوف تكون البنية الأساسية الجديدة مطلوبة للحفاظ على الدور الذي تلعبه المدن كمحرك للنمو الاقتصادي: فالمدن الستمائة الكبرى على مستوى العالم تولد أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وسوف تساهم المناطق الحضرية بشكل غير متناسب في خلق ثروات المستقبل.
في الإجمال، سوف يتطلب الإبقاء على مدن العالم قابلة للحياة وخفض انبعاثاتها الكربونية نحو 2 تريليون دولار سنوياً على مدى الأعوام العشرين المقبلة. ولكن من نأتي بهذه الأموال الطائلة؟
إن بضع مدن قليلة تتمتع بالقدر الكافي من الثراء لرفع مستوى البنية الأساسية اعتماداً على نفسها. والواقع أن أغلب المدن ــ وخاصة في البلدان المتقدمة ــ لم يعد بوسعها أن تعتمد على المزيد من التحويلات المالية من قِبَل الحكومات الوطنية. ففي أوروبا والولايات المتحدة، انخفض الإنفاق العام على البنية الأساسية منذ ستينيات القرن العشرين؛ ومع خضوع الموازنات العامة لضغوط شديدة، فمن غير المرجح أن تتعافى. وفي مواجهة الفجوة المتزايدة الاتساع في الاستثمار في البنية الأساسية، سوف تحتاج المدن إلى المزيد من الاستثمارات الخاصة.
مولت البنوك تقليدياً حصة كبيرة من الإنفاق على البنية الأساسية. ولكن بعد مرور ست سنوات منذ اندلاع الأزمة المالية، لا تزال البنوك في العديد من البلدان تحاول إصلاح موازناتها، في حين تزيد متطلبات رأس المال والسيولة الجديدة من ارتفاع التكاليف التي تتحملها البنوك لتمويل الإقراض الطويل الأجل في المستقبل.
ومن ناحية أخرى، تستثمر صناديق معاشات التقاعد وشركات التأمين وغير ذلك من الجهات الاستثمارية المؤسسية في البنية الأساسية بشكل متزايد. وخلافاً للبنوك فإن التزامات مثل هذه المؤسسات طويلة الأجل، والتي قد يتناسب معها بشكل معقول العائدات المتوقعة في الأمد البعيد من الاستثمار في البنية الأساسية. وفي بيئة تتسم بانخفاض أسعار الفائدة إلى مستويات متدنية للغاية واضطراب أسواق الأسهم، فإن مشاريع البنية الأساسية تبدو ايضاً بديلاً جذاباً ومعقولاً للأسهم والسندات وتدر عائدات كافية في نهاية المطاف لتمويل معاشات التقاعد في المجتمعات الغربية التي تعاني من الشيخوخة السكانية.
ولكن حتى وقتنا هذا، لم تخصص الجهات الاستثمارية المؤسسية سوى القليل نسبياً في البنية الأساسية، ويرجع هذا جزئياً إلى أوجه القصور التي تعيب البيئة الاستثمارية في العموم. على سبيل المثال، غيرت بعض الحكومات بأثر رجعي سياساتها في التعامل مع مصادر الطاقة المتجددة، الأمر الذي جعل المستثمرين أكثر حذرا. وعلاوة على ذلك، فإن متطلبات رأس المال الجديدة من الممكن أن تجعل استثمار شركات التأمين في البنية الأساسية مكلفاً للغاية.
فضلاً عن ذلك، لا تمتلك العديد من الجهات الاستثمارية المؤسسية الخبرة الكافية بعد للمغامرة بأموالها في البنية الأساسية. ولأن البنية الأساسية لم تصبح بعد فئة من الأصول المحددة بوضوح، فإن المستثمرين كثيراً ما يجدون صعوبة في التخطيط لممتلكاتهم في هذا المجال وتقييمها وإدارتها.
وتنطبق هذه العقبات على كافة أشكال الاستثمار في البنية الأساسية. ولكن البنية الأساسية الحضرية بشكل خاص في وضع غير موات. فبادئ ذي بدء، يتمتع العديد من المسؤولين عن المدن بخبرة محدودة في التعامل مع مستثمري القطاع الخاص، وهذا من شأنه أن يزيد من صعوبة إقامة شراكات مثمرة. والأمر الأكثر أهمية أن مشاريع البنية الأساسية الحضرية تميل إلى كونها صغيرة الحجم ومتفرقة ومتنوعة. وبالنسبة لأغلب مستثمري القطاع الخاص، يُعَد الجهد اللازم للبحث عن وتقييم وإدارة مثل هذه المشاريع أعظم كثيراً من العوائد التي يمكنهم توقعها منها، وهذا هو السبب الذي يجعل المستثمرين المؤسسيين يفضلون غالباً المشاريع الأكبر حجماً والأسهل تقييماً مثل حدائق الرياح وخطوط الأنابيب والطرق السريعة.
وإذا كان للمزيد من الأموال الخاصة أن تتدفق إلى البنية الأساسية الحضرية، فلابد من تغيير الإعداد المؤسسي. وبوسع المدن الضخمة أن تنشئ مؤسسات خاصة للتوفيق بين مشاريع البنية الأساسية والمستثمرين، كما فعلت مدينة شيكاغو بالفعل من خلال صندوق ائتمان البنية الأساسية. ويتعين على الحكومات أن تعمل على إنشاء مؤسسات وطنية لدعم الاستثمارات المستدامة في البنية الأساسية الحضرية.
ومن الممكن أن تبدأ «منصات المدن الخضراء» هذه بتوفير الخدمات الاستشارية، والتوفيق بين المستثمرين والمشاريع، والعمل كمنتديات لتبادل المعرفة. وبهذا تصبح في وضع جيد يسمح لها بالعمل كمجمع ــ لتجميع وتوحيد وتسويق مشاريع البنية الأساسية الحضرية. وفي مرحلة لاحقة يصبح بوسعها أن تنتقل إلى جمع الأموال في سوق رأس المال وتمويل البنية الأساسية المستدامة جنباً إلى جنب مع غيرها من المستثمرين.
إذا تمكنا من التغلب على الحواجز التي تحول دون تمكين الاستثمار الخاص في البنية الأساسية الحضرية، فسوف يستفيد العالم كثيراً من انخفاض مستويات انبعاث ثاني أكسيد الكربون، والنمو الاقتصادي الأسرع، ومدخرات التقاعد الأكثر أمانا. هو حوار يستحق أن نديره بحماس.
* خبير الماني في مجال البيئة