الاقتصاد من الفوضى إلى العقلانية
صادق باخان
يجمع علماء الاجتماع والاقتصاد على ان ما يعاني منه المجتمع العراق من تخلف صناعي وزراعي وتعليمي وثقافي هو نتيجة سيادة الفوضى التي افرزتها الانظمة العسكرية الانقلابية التي توالت على حكم العراق منذ 14 تموز من العام 1958 الى العام 2003 لكنهم في الوقت ذاته يشيدون بحكم الزعيم عبدالكريم قاسم لأنه اولى عناية ببناء العراق وشجع الصناعة العراقية الناشئة واهتم برعاية الطبقات الفقيرة المسحوقة وجاءت المشاريع التي اقامها بالاستناد الى المشاريع التي وضعها مجلس الاعمار في العهد الملكي حين انتعش الاقتصاد العراقي مع ارتفاع الريع النفطي بزيادة الانتاج النفطي ولكن انقلابي شباط 1963 احبطوا التجربة التموزية وادخلوا العراق في نفق مظلم استمر لعدة اشهر لينقلب عليهم عبدالسلام عارف وتحصل فوضى اخرى في عهده حين لجأت الحكومة الى تأميم الصناعات العراقية الناشئة تحت مظلة اشتراكية كوميدية وصفوها بالاشتراكية الرشيدة معارضة للاشتراكية العلمية التي جاء بها كارل ماركس ومع وفاة عبدالسلام عارف بطريقة غامضة خلفه شقيقه عبدالرحمن عارف ودبر حزب البعث ضده انقلاباً واطاحوا به في العام 1968 وفي العام 1972 قام النظام بتأميم الشركات النفطية الاجنبية العاملة في العراق ولكن التأميم تحول الى كارثة على العراق حين لجأ عقب عامين الى استيراد الاسلحة وعقد صفقات التسلح مع فرنسا ومع مجيء العام 1979 قامت الثورة الاسلامية في ايران فأطاحت بنظام الشاه فقام السيد النائب صدام حسين بانقلاب ابيض ضد الرئيس احمد حسن البكر ودبرت اجهزة الامن والمخابرات تمثيلية قيام طلبة ايرانيين بإلقاء قنابل في تجمع جماهيري ومحاولة اغتيال طارق عزيز وعلى اثر هذه الكوميديات ظهر الرئيس صدام حسين في المجلس الوطني ومزق اتفاقية الجزائر التي كان قد وقعها مع شاه ايران حول شط العرب واعلن حربا عدوانية ضد الجمهورية الاسلامية الايرانية التي كانت منشغلة في قضاياها الداخلية وسط الصراعات بين شتى الاتجاهات الفكرية وانتهت بغلبة جناح الامام الخميني قائد الثورة الاسلامية واستمرت الحرب ثمانية اعوام دمرت البلدين من الناحيتين البشرية والاقتصادية وخرج الاقتصاد العراقي مثقلا بالديون وما كادت تمضي سنتان على انتهاء الحرب العراقية – الايرانية حتى لجأ رئيس النظام الى ارتكاب حماقة اخرى بقيامه غزو دولة الكويت وكان الدافع لهذا الغزو هو الاقتصاد سعى رئيس النظام بغزوه الى ترميم الاقتصاد العراقي المدمر والمثقل بالديون التي بلغت ارقاماً فلكية وتحرك المجتمع الدولي ليشن الحرب على النظام العراقي لإخراج قواته من دولة الكويت وبدأت حرب تحرير الكويت ثم فرض المجتمع الدولي الحصار على النظام العراقي لتبدأ التراجيديات العراقية على جميع الصعد والخاسر هو العراقيون الذين تاجر بهم النظام وصار العراقيون نباتيين هجروا اكل اللحوم لارتفاع سعره في حين صار كل رجال ( الريس ) يأكلون لحم الغزلان ودخل الاقتصاد العراقي في تموجات السراب.
العراق ما بعد 2003
ورث العراق غداة العام 2003 تركة ثقيلة ، بلداً مدمراً على المستويات كافة وفعلا تحقق ما حذر منه وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر وزير خارجية النظام الصدامي طارق عزيز من ان العراق سيعود الى عصر ما قبل الصناعي وفعلا عاد الفلاح العراقي الى استعمال المحراث الخشبي الذي يجره ثور عجوز، فقوة البلدان لم تعد تقاس بما تمتلكه من ترسانة للأسلحة الاستراتيجية والبالستية وانما تقاس بقوة اقتصادها فمثلا ان الاتحاد السوفييتي بكل جبروته العسكري النووي سقط وانهار وتفكك لان اقتصاده لم يتمكن من مجاراة الاقتصاد الاميركي بعد ان طرح الرئيس الاميركي الاسبق رونالد ريغان مشروع حرب النجوم الذي من خلاله انتجت الولايات المتحدة الاميركية طائرة ستيلث المسماة بطائرة الشبح والتي بلغت تكاليف انتاج طائرة واحدة منها 12 مليار دولار ولم يتمكن الاتحاد السوفييتي مواجهة هذا المشروع فسقط جراء ذلك فضلا عن اسباب اخرى سقط من دون اطلاق رصاصة واحدة في زمن الحرب الباردة وكذلك القول مع كوريا الشمالية المهووسة بإنتاج الاسلحة النووية وكاد شعبها يموت جوعا قبل سنتين لولا المساعدات الغذائية التي قدمتها بعض بلدان الاتحاد الاوروبي في حين ان جارتها كوريا الجنوبية صارت من ابرز الدول الصناعية وحقق اقتصادها نموا متسارعا اما اليابان فإنها البلد الاعجوبة المحققة للمعجزة الاقتصادية غداة خروجها مهزومة من الحرب العالمية الثانية وحققت معجزتها لمجرد ان امبراطورها هيرو هيتو خاطب اليابانيين بالقول ان البلد الذي هزم اليابان في الحرب لابد انه اكثر تقدما من الناحية العلمية فاتركوا السلاح واتجهوا الى العلم والى الاقتصاد وراح الساموراي يكسر سيفه وتوجه الى العلم وتمكنت اليابان في ظل الحزب الليبرالي الوطني ان تحقق معجزتها الاقتصادية خلال وقت قياسي وغزت الاسواق العالمية بمنتاجاتها الكهربائية والتكنولوجية وبسياراتها وشاحناتها ، فكيف تمكنت اليابان من تحقيق معجزتها الاقتصادية من دون ان تمتلك بئراً نفطية واحدة ؟ الا يشكل هذا السؤال اشكالية فلسفية وسوسيولوجية في حين ان العراق يستلقي على اوقيانوس من النفط والغاز وما يزال الفلاح العراقي يستعمل المحراث الخشبي الذي يجره ثور عجوز ؟ فماذا لو ان سعر برميل النفط انخفض الى عشرة دولارات ؟ افلا يمر العراق ومعه بقية الاعضاء في منظمة الاوبك العربية منها بالذات في كساد اقتصادي؟ يا الهي، هل يعني هذا ان العراق سيصبح مثل الولايات المتحدة الاميركية حين عانت من الكساد الاقتصادي العظيم Deep Depression في اثناء ثلاثينيات القرن الماضي عقب اكتشاف النفط فانهار سعر الفحم الذي كان مصدرا للطاقة فترتب على ذلك ان المصانع الكبرى اغلقت ابوابها وانتشرت البطالة وصار الاميركيون يقفون في طوابير طويلة لمجرد الحصول على صحن من الحساء تقدمه الجمعيات الخيرية؟ ومن حسن حظنا ان ليس لدينا مصانع تنتج السيارات والشاحنات والطائرات والدبابات ولن تغلق هذه المصانع ابوابها وانما لدينا جيوش من العاملين في اجهزة الدولة وان الرواتب التي تدفع للبيروقراطية تشكل ثلاثة ارباع من الميزانية التشغيلية وكل ذلك لان الاقتصاد العراقي يندرج تحت مسمى الاقتصاد الريعي لاعتماده على واردات النفط ومن هنا تاتي المحنة العراقية التي قد تتعرض الى تقلبات السياسة الدولية والاسواق النفطية ومن ذلك ما كان قد صرح به رئيس بعثة صندوق النقد الدولي الى العراق السيد كارلو سدراليفيتش بان الماليات العامة في العراق معرضة بشكل متزايد للتأثر بهبوط اسعار النفط وعليه فقد تواجه الحكومة العراقية صعوبة في تمويل خطة الموازنة للعام 2014 ورأى السيد سدراليفيتش انه توجد مشكلة هيكلية اذ تعتمد السياسة المالية بشكل كبير ومتزايد على ايرادات النفط وهذا الاتجاه ، بحسب رأيه ، يبعث على القلق ، لماذا ؟ لان سعر النفط الذي يحقق التوازن بين الايرادات وبين النفقات في ازدياد منذ بضع سنوات .
زيادة الانفاق الحكومي
ويلاحظ ان المركز العالمي للدراسات التنموية الذي يتخذ من لندن مقراً له كان قد حذر من عدم قدرة الحكومة العراقية على تمويل مشاريعها او الوفاء بالتزاماتها في غضون الاعوام الثلاثة المقبلة وقال المركز في تقريره ان عدم قدرة العراق على توفير مصادر دخل اخرى لتمويل موازنته غير بيع النفط اضافة لزيادة الانفاق الحكومي بنسبة 60% مقابل الانفاق الاستثماري فان نسبة العجز ستكون كبيرة الى درجة انها تهدد بتوقف عدد من المشاريع في مناطق متفرقة من العراق، وفعلا حدث ما توقعه المركز العالمي للدراسات التنموية.
والامر المثير ان تقرير المركز المذكور قد اشار الى ان العراق يحتاج الى انفاق نحو ترليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة لتطوير قطاعه النفطي وعدد من المشاريع الاستراتيجية اهمها الاسكان والصناعة ولكن هذا الرقم الفلكي يبدو بعيد المنال خاصة في ظل الظروف الصعبة لاستقطاب الاستثمارات الاجنبية وعدم مرونة النظام الاقتصادي وتخلف البيئة المصرفية في العراق وهيمنة المصارف الحكومية.
وازاء ذلك فان خبراء الاقتصاد يرون انه في حال لم ينجح العراق في تقليص نفقاته الحكومية واصلاح نظامه الاقتصادي ومؤسساته التي تعاني من الروتين والبيروقراطية والفساد المالي والاداري اضافة الى تنويع مصادر الدخل وايجاد حلول سريعة لتوفير الامن والاستقرار فأن ذلك قد يضغط مستقبلا لتشكيل اقاليم جديدة تعلن انفصالها عن المركز مما يثير اسئلة بشأن مستقبل العراق بوصفه دولة نفطية تتمتع باقتصاد قوي ، افلا ما يجري الان من ظهور تنظيم داعش ومن تحالف معه يدل على ذلك وبان العراق صار محاطا بمؤامرة كبيرة تمت طبخها في مطابخ تركيا الاردوغانية وقطر والمملكة السعودية والهدف المركزي من كل هذا هو اسقاط التجربة الديمقراطية الناشئة في العراق؟
وليس من خيار امام العراق سوى العمل على التحرر من الاقتصاد الريعي ونقل الاقتصاد من حالة الفوضى الى العقلانية ووضع ضوابط ومراقبة التجار الذين هم من طبقة حديثي النعمة يتولون استيراد السلع والبضائع من اسوأ المناشئ التي غالبا ما تكون منتهية الصلاحية من اجل الكسب السريع في سباق الفئران هذا المسمى الصراع الطبقي المشوه ، فيا ايها الوطنيون الذين ما زلتم محتفظين برومانسيتكم اقيموا متاريس عالية بينكم وبين من اتخذ من السياسة مهنة للتسلق الطبقي بحثا عن الثروة والوجاهة الاجتماعية المزورة.
والامر الاخر لماذا لا تلجأ الحكومة الجديدة التي لا نعلم متى سيتم تشكيلها الى احياء مجلس الاعمار الذي كان موجودا في العهد الملكي؟ فقد حاول الدكتور البصري، الخبير في الشؤون الاقتصادية، احياء هذا المجلس وتخصيص ميزانية خاصة له ويبدو ان لا احد التفت اليه وذهب المشروع في مهب الريح، لماذا؟