المعنى في الشعر: من دلالة الكلمة إلى براغماتية السياق الذاتي “الحسين بن خليل” انموذجا

حيدر الأديب

الكلمة في الشعر: هل تفقد إحالتها أم تعيد تشكيلها؟

عندما نتحدث عن الكلمة في الشعر، فإننا نواجه سؤالاً معقدًا: هل تفقد الكلمة إحالتها بالفعل أم أنها تعيد تشكيلها؟ هذا السؤال ليس مجرد لغز بلاغي، بل يرتبط جوهريًا بتصورنا عن طبيعة الشعر ذاته.

الكلمة في الشعر تتجاوز إطارات المعنى المتعارف عليها في الاستخدامات اليومية للغة. فهي ليست مجرد وسيلة لإيصال معنى أو إحالة إلى واقع خارجي؛ بل تصبح جزءًا من بناء جمالي معقد يتداخل فيه الصوت، الإيقاع، الرمزية، والتجربة الذاتية للشاعر. نتيجة لذلك، يبدو أن الكلمة في الشعر لا “تفقد” إحالتها بقدر ما تتحرر من دلالاتها التقليدية لتدخل في نظام جديد من المعاني التي تتولد عبر السياق النصي والشخصي.

تفسير فقدان الإحالة: تعددية الإحالات وليس تلاقحها

الإجابة التي تعزو فقدان إحالة الكلمة في الشعر إلى “تلاقح الإحالات” قد تكون مقبولة جزئيًا، ولكن يمكننا تقديم رؤية أوسع. الكلمة في الشعر ليست مجرد نقطة تجمع لإحالات متعددة، بل هي بؤرة لخلق معانٍ جديدة ومتعددة تتجاوز الوظيفة الإشارية أو الدلالية المباشرة.

مستويات الكتابة الشعرية: براغماتية السياق الذاتي كعنصر وسيط

عادةً ما يُصنف النص الشعري على ثلاثة مستويات:

المنظور: يمثل زاوية الرؤية الذهنية أو الإحساس الشعوري الذي يشكل بنية النص.

البنية السطحية: التي تشمل الكلمات والجمل الظاهرة.

البنية العميقة: المعاني الدفينة والرموز التي يحملها النص.

إلا أن هذه التقسيمات تفترض وجود خط فاصل بين السطح والعُمق. لكن الحقيقة هي أن هناك مستوى وسيط يمكن تسميته بـ براغماتية السياق الذاتي. هذا المستوى لا يشير إلى المعنى الدلالي المباشر ولا إلى الرمزية العميقة فقط، بل إلى كيف يتشكل المعنى من خلال تفاعل النص مع التجربة الذاتية للكاتب والقارئ.

براغماتية السياق الذاتي: كيف يتفاعل المعنى مع الذات؟

براغماتية السياق الذاتي تشير إلى ديناميكية توليد المعنى في النص الشعري من خلال التفاعل بين النص والسياقات الذاتية الخاصة بالكاتب والقارئ. الكلمة في الشعر لا تحمل إحالة ثابتة، بل تتكيف مع السياق الداخلي للقارئ (والكاتب على حد سواء)، مما يسمح بظهور معانٍ جديدة تتوافق مع التجربة الشخصية.

السياق الذاتي للكاتب: الشاعر يدخل تجربته الذاتية في النص، مما يجعل الكلمات محمّلة بأبعاد جديدة مرتبطة بتجربة الشاعر الخاصة. الكلمة لا تحمل إحالتها العامة بل تنفصل لتكوّن إحالات جديدة تُعيد تشكيل العالم الداخلي للشاعر في النص.

السياق الذاتي للقارئ: النص الشعري يصبح مفتوحًا على تعددية التأويلات عندما يتفاعل مع الذات القارئة. هنا تظهر براغماتية المعنى، حيث يعتمد معنى الكلمة على السياق النفسي والشخصي للمتلقي. القارئ ليس مجرد مستهلك للنص، بل شريك في عملية توليد المعنى من خلال تفسيره الخاص وتجربته الذاتية.

تفاعل الذات والنص: دينامية المعنى المتجددة

مع براغماتية السياق الذاتي، النص الشعري يتحول إلى فضاء حيوي تفاعلي، حيث يتغير المعنى تبعًا لتجربة الفرد القارئ أو الكاتب. هذه التفاعلية تجعل النص الشعري في حالة من التحول المستمر، حيث لا يقتصر المعنى على إحالة ثابتة بل يتشكل باستمرار بناءً على المتغيرات الذاتية.

المعنى ليس نهائيًا: النص الشعري لا يطرح معنى نهائيًا مغلقًا بل يظل مفتوحًا على الاحتمالات التأويلية المتعددة. الكلمة في الشعر ليست وسيلة لإحالة وحيدة، بل هي نقطة انطلاق لتفاعلات متعددة تتجاوز الحدود الثابتة للمعنى.

التفاعل مع الذات: الشعر يصبح مرآة للذات القارئة التي تعيد تأويل الكلمات بناءً على تجربتها الشخصية. هذا يخلق تعددية في مستويات المعنى، حيث يكون للنص عمق جديد مع كل قراءة، مما يسمح للمعنى بالتحول والتجدد.

الكلمة في الشعر: هل هناك إحالة حقًا؟

في الشعر، الإحالة تتخطى الحتميات الثابتة. الكلمة تتجاوز أن تكون مجرد مؤشر لمعنى محدد لتتحول إلى بؤرة إبداعية مفتوحة. بهذا المعنى، يمكن القول إن الكلمة في الشعر لا تفقد إحالتها، بل تدخل في حالة من التحول الدائم حيث تتشكل معانيها وفقًا للسياق الذاتي والتفاعلي بين الكاتب والقارئ.

براغماتية السياق في قراءة النص الشعري

كما بينا سابقا ُتعد براغماتية السياق أحد المفاتيح الأساسية لفهم النصوص الشعرية، حيث تتفاعل المستويات الثلاثة: السطحية، العميقة، وبراغماتية السياق. النص الذي أمامنا يُظهر كيفية تأثير هذه المستويات على فهمنا للمعاني والدلالات المتعددة، مما يتيح لنا الغوص في تفاصيله واكتشاف أسراره الدفينة.

تتجلى البنية السطحية في النص من خلال التعبيرات الظاهرة، التي تشمل الكلمات والجمل التي يمكن فهمها بسهولة. من خلال العبارات مثل “عصفورتي كلما همت لتبلغ الآثمين”، نرى صورة واضحة لطائر يُمثل الرغبة في الهروب أو البحث عن الخلاص، لكن هذه الصورة تظل محصورة في سياق محدد. تُبرز هذه العبارة القلق والخوف من العواقب، إلا أن سطحيتها تعني أن القارئ قد لا يدرك الأبعاد الأعمق من الرسالة.

بينما تدعو البنية العميقة القارئ للتفاعل مع النص بشكل أعمق، تنكشف المعاني الرمزية المعقدة. على سبيل المثال، عبارة “دعوتي الآن احتفالٌ في فوهة جندي” تحمل دلالات عميقة عن الحياة والموت، تتقاطع فيها مسألة الهوية الفردية مع التحديات الجماعية. هنا، يصبح الاحتفال معبرًا عن التناقض بين الأمل واليأس، مما يجعل القارئ يتأمل في الصراعات الداخلية والخارجية التي يتعرض لها الإنسان.

تظهر هذه البنية العميقة من خلال استخدام الرموز مثل “محرابٌ لا يعتليه أنبياء غيري”، مما يعكس شعورًا بالعزلة والفردية في مواجهة القضايا الكبرى. إن الجملة تشير إلى الفقدان، حيث يتحدث الشاعر عن شعوره بأنه الوحيد الذي يحمل هذه الرسالة.

براغماتية السياق:

براغماتية السياق تلعب دورًا محوريًا، حيث تؤثر في كيفية تشكيل المعاني من خلال تفاعل النص مع التجارب الذاتية للكاتب والقارئ. عندما يقول الشاعر: “أنا الوحيد الذي لم يمُتْ في فخ كراهية يشد فتحتَها أبناءُ البلاط”، يربط بين تجربته الفردية وتجربة جماعية أكبر تتعلق بالظلم الاجتماعي والسياسي. هنا، يستحضر الشاعر ذاكرة القارئ المجاورة، مما يجعل كل مفردة تحمل أبعادًا دلالية تتجاوز المعنى المباشر.

 

عندما يتحدث عن “هذه الحانة فضيحةٌ لم يكتمها خاسرٌ يرى ربحَه الأكيدَ في خزائن السلطات”، يُبرز دور السياق الاجتماعي والسياسي في تشكيل المعنى. تنفتح هنا الإحالات على العوالم المحيطة، حيث تصبح الحانة رمزًا للخسارة والخداع. إن الشاعر يدعونا للتفكير في الواقع الذي نعيشه وكيف أن قوى السلطة تُعطل الأصوات الفردية.

 

الإحالة والغلق والانفتاح

في النص، تتجلى عمليات الإحالة بشكل واضح، إذ تغلق بعض الجمل معاني محددة، بينما تفتح أخرى آفاقًا للتفكير. على سبيل المثال، استخدام عبارة “جمجمتي محرابٌ لا يعتليه أنبياء غيري” يظهر إحالة إلى مفهوم العزلة، لكن في الوقت نفسه، يُفتح المجال للتأمل في دور الشاعر كخالق للمعاني.

الذاكرة المجاورة والمفردة

تُستخدم المفردة في هذا النص لتفعيل الذاكرة المجاورة، حيث يتشارك المعنى بين الكلمات، مما يعمق التجربة الشعرية. على سبيل المثال، العبارة “كيف للعروق أن تصير دلاء لتتصيدني” تشير إلى كيف يمكن للذكريات والأحاسيس أن تتداخل، مما يجعلنا نتأمل في كيفية تأثير تجاربنا الشخصية على فهمنا للعالم من حولنا.

يُظهر النص قدرة شعرية عالية على التعبير عن الأبعاد المختلفة للوجود الإنساني، حيث تتداخل البنية السطحية، العميقة، وبراغماتية السياق لتشكيل تجربة فريدة للقارئ. إن تفاعل هذه المستويات الثلاثة يفتح آفاقًا جديدة لفهم النصوص الشعرية، ويعزز من عمق المعاني، مما يجعل الشعر مرآة تعكس التعقيد البشري. من خلال هذا التحليل، يصبح واضحًا أن براغماتية السياق لا تُعتبر مجرد عنصر إضافي، بل هي جوهر التجربة الشعرية التي تُعبر عن التجارب الإنسانية بشكل شامل ومعقد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة