حاتم السروي
هذا السؤال من اليسير الإجابة عليه؛ إذ يطلعنا التاريخ أن أول من أنشأ أكاديمية هو الفيلسوف أفلاطون رائد المثالية في العالم، والذي كتب عدة محاورات بعد وفاة أستاذه سقراط وجعلها على لسانه، وقد رفعته بأفكارها المهمة وأسلوبها البليغ إلى أسمى الأوساط الأدبية في أثينا وغيرها من مدن اليونان. وكان أفلاطون يشغل وقته بتأليف هذه المحاورات، ما عدا الأوقات التي كان يرحل فيها. غير أن ما سمعه من سقراط قد نفد بعدما دونه، وفي نفس الوقت بلغ أفلاطون مرتبة من التفكير جعلته يعتقد أنه من الأفضل ولا شك أن يعلم بنفسه لا على لسان سقراط. ولذلك رأيناه ينصرف عن المحاورات ويؤسس الأكاديمية. وقد سميت الأكاديمية بهذا الاسم لأن دروسها كانت تُلقَى في بستان يُدعَى “أكاديموس” يقع شماليْ غرب أثينا، وبالتحديد في ضاحية “كلونوس” التي جعلها “سوفوكليس” مكانًا لأحداث روايته “أوديب” وفيها يحدثنا المؤلف عن (أبدع مساكن العالم) على حد وصفه؛ إذ يوجد فيها أشجار الكرم والزيتون والأزهار والنرجس، وعلى أغصان الشجر تغرد البلابل، وفي المدينة تجري المياه بلا انقطاع، ولهذا وجد فيها أصحاب المزاج الشعري مجالاً للإلهام، وفضل أفلاطون أن يجعلها مقرًا لمدرسته. وكان لبستان أكاديموس ملعب يتصل به، والذي وصل إلينا أن طلاب الأكاديمية كانوا يلتقون بين الملعب والبستان، ثم ينسابون إلى البستان ويقضون فيه أوقاتهم بين البحث والمحاورة، وفيما بعد شغلت الأكاديمية بيتًا قريبًا من البستان وهو الذي عُرِفَ بالأكاديمية. والأكاديمية أشهر من أن تُعَرَّف، فقد بقيت مُفَتَّحَة الأبواب تسعمائة عام حتى أغلقها الإمبراطور الروماني جستنيان، ولا تزال جامعات اليوم تسمي نفسها بهذا الاسم إحياءً لذكرى مؤسسها، وتعني كلمة الأكاديمية في العرف التعليمي (مدرسة التعليم العالي). ولم تكن الأكاديمية أول مدرسة أُنْشِئَت في أثينا بل سبق وأن أسس السوفسطائيون مدرسة لتعليم الطلبة بعض المهارات اللازمة للحياة وخاصةً الجدل والخطابة، كما أنشأ الفيلسوف فيثاغورس قبلهم مدرسة في “قورينا” الواقعة بجنوب إيطاليا سنة 520 ق.م وهي مدرسة شهيرة كانت تعلم المذهب الرياضي الذي أسسه فيثاغورس، وقد تعلم فيها أفلاطون، ولعله كان ينسج على منوالها في إيثار التعليم الرياضي. وقامت في أثينا مدرسة أخرى قبل إنشاء الأكاديمية بثماني سنوات، هي تلك التي أسسها “إيزوقراط” وكانت مختصة بالبلاغة. وتحتلف مدرسة أفلاطون عن مدارس السوفسطائيين وإيزوقراط بأنها كانت تعلم العلم لذاتِه، أما تلك المدارس فكانت فكانت تعتبر العلم وسيلة إعداد للحياة، بينما كان هدف أفلاطون هو تعليم أفضل صورة ينبغي أن تكون عليها الحياة، بمعنى أوضح كان يعلم تلاميذه نظرته المثالية، فللحياة مُثُل عليا يجب أن تسير عليها، ولأفلاطون نظرية كاملة في الفلسفة تسمى نظرية المُتُل وكان يقول كما قال أستاذه سقراط: العلم هو الفضيلة، والفضيلة هي العلم، وبذلك جمع أفلاطون وفق نظرته بين المعرفة والخير. وانصرف أفلاطون عن العلم الطبيعي الذي اهتم به غيره من العلماء إلى (علم الإنسان بنفسه) ولذلك نظر في النفس وفي الفضائل، ومع أنه كان يعلم الرياضيات والهندسة؛ إلا أن العلم الرياضي عنده لم يكن مطلوبًا لذاته، بل هو وسيلة إلى بلوغ الحقيقة في معرفة النفس والخير. وقد بدأ أفلاطون مدرسته بوضع المنهج الذي ينبغي وفقًا له أن تسير عليه، وكانت المدرسة في أول عهدها صغيرة ثم نمت بعد ذلك. وكان منهج المدرسة يبدأ بالرياضيات وبخاصة الهندسة، ثم الفلك فالموسيقى وبعدها المنطق والسياسة، وهذا كله بغرض معرفة قوانين العالم ونظمه وأخلاق الإنسان. وبعد هذه العلوم يأتي دور علم الحقيقة، وهو الذي سماه أرسطو فيما بعد علم الفلسفة الأولى، وهو ما وراء الطبيعة أو “الميتافيزيقا”. ولم يكن أفلاطون يحفل بالعلم المدون أو المكتوب فكان تعليمه حواريًا، وله في ذلك حكمة جعلته يعمد إلى المباحثة والسماع بدلاً من الكتابة التي كان فيها ممتازًا لكنه آثر أن يتجنبها لإيمانه بأن العلم المأخوذ من الكتب ليس هو الطريقة الحسنة للتعليم، كما أن الآراء المكتوبة لا تعلم الحقيقة، ولا تقوى على الجدل، والسبيل الصحيح هو التعليم الشفهي من أفواه المعلمين الذين تكمن الألفاظ في نفوسهم، ثم تخرج منهم فتستقر في نفوس الطلاب، كأنها حديث القلب إلى القلب. ومما سبق نستطيع أن نتصور الأكاديمية مكانًا للبحث أو المحاورة، أو كما يقال اليوم (قاعات بحث) وكان أفلاطون بين تلاميذه واحدًا منهم، فنظام الأكاديمة هو نظام من الأُخُوَّة يشبه ذلك النظام الذي كان معمولاً به في مدرسة فيثاغورس، وكان بعض الطلبة في الأكاديمية يقومون بالتدريس كالعرفاء في الكتاتيب والمعيدين في الجامعات. وقد ظل أرسطو في الأكاديمية عشرين سنة فكان ذراع أفلاطون الأيمن، ولولا ظروف خاصة به لخلفه في رياسة الأكاديمية. وفي شيخوخته بدأ أفلاطون ولأول مرة يلقي محاضرة عامة موضوعها “الحقيقة” وكان الناس يتهافتون على سماعها، وكان بعض الحاضرين يكتبون عنه، ومنهم أرسطو، وقد عرفنا آراء أفلاطون من الردود التي كتبها أرسطو عليها، والملحوظة العامة على محاضرات أفلاطون أنها أصعب من محاوراته وأقرب إلى الغموض، لذلك قال الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في كتابه الذي عنوانه “في عالم الفلسفة” ما مؤداه: إننا نعرف أفلاطون من محاوراته لا من محاضراته. وبشكلٍ عام يمكن القول إن تفكير أفلاطون كان مع تقدمه في السن ينضج ويصبح أكثر عمقًا، وفي الأكاديمية وأثناء شيخوخته كان يلقي دروسًا معقدة يعجز الطلاب عن فهمها، ولهذا انصرف بعضهم عن الدراسة فيها! وأصبحت طريقة أفلاطون في التعليم موضعًا للنقد الشديد، كما وجه إليها أرسطو نقدًا لاذعًا لم يخلُ من التجريح، وأنشأ مدرسة خاصة به في اللوقيون، صمم أن يبتعد فيها عن طريقة أستاذه أفلاطون. ويدلنا المؤرخون إلى أن الأكاديمية كانت تسير بفضل شخصية أفلاطون العبقرية المؤثرة، على أنها بعد وفاته وتحت رياسة ابن أخته “سبيسيوس” هجرها كثير من التلاميذ النابغين مثل أرسطو و”زنوقراط” بل أنشأ أرسطو مدرسة اللوقيون في أثينا لتنافسها، وهي مدرسة المشائين، وبقيت المنافسة قائمة بين طريقة أفلاطون وطريقة أرسطو، وبين فلسفتيهما إلى اليوم، فالفلسفة إما مثالية أفلاطونية، أو واقعية أرسطية. ولم يكن طلبة أفلاطون يدفعون أجرًا على تعلمهم، ولكن بما أن أكثرهم أغنياء، فقد كان أهلهم يقدمون هبات للمدرسة تشبه ما كان يوقفه الأمراء على المدارس في الزمان الماضي، ويقال إن الملك “ديونيسيوس الثاني” وهب المدرسة ما قيمته نصف مليون جنيه، وهذا يوضح لنا لماذا صبر أفلاطون على هذا الملك الذي كان يعتقد أنه جاهل. وقد جعل أفلاطون للنساء حق الالتحاق بالأكاديمية، وكان للطلبة زي خاص، وقلنسوات مميزة يضعونها على رؤوسهم، وهو التقليد المعمول به حتى اليوم في الجامعات، وكان شعراء أثينا الفكاهيين يسخرون من طلبة الأكاديمية بسبب رقة سلوكهم وثيابهم الأنيقة.