رنا صباح خليل
لا يسع قارئ رواية «لجوء عاطفي» للعراقي عبد الستار البيضاني إلا أن يجزم، في أولى ملاحظاته، بأنه في هذه القراءة سيتعرف على ايقونة جمالية مستلة من الذوق الأدبي الرفيع، هي أشبه بمقامة رومانسية تستدعي البحث عن بلاغة وجدانية والتوق لاكتشاف اسرارها وسبر أغوارها الإنسانية، ذلك أن اختلاط الواقع رغم فجاجته بشفافية الحُلم عن طريق إعادة تكوينه بمهارة فائقة تستثير التأمل هو ما أجاده الروائي في هذه الرواية فقد استخرج ذلك المعنى الشفاف للمشاعر التي لا نكاد نراها وهي متضمنة واقعا يتجسد في أشد ملامح الإحساس بالفقد للأحبة ضراوة؛ بفعل الحروب وما تحدثه في ازمانها من خراب يطال اجمل ايام العمر، ما نجده هنا هو تنبيه دائم ومستمر لتيار رقيق من التذكر والحنين واشتمام الرائحة المميزة لتنامي العاطفة واكتنازها في مواجهة صلدة مع الواقع بكل جهامته، فالفقد للحبيبة بجمال انثيالاته جاء مشابها للموت الذي يحمل اعتى ما يمكن التعبير عنه في رهبته وغموضه كما بينه الاديب إدجار آلان بو في كتاباته وقد ادركه كاتبنا واستوعبه تماما بحس فني كبير قبل ان ينفذ ببصيرته الروائية إلى اعمق المناحي في نفس البطل وروحه و المكونات الطبيعية التي تحيطه.
الرواية تدور حول مرتضى قاسم بطل الرواية الذي استيقظ ذات يوم صباحا وهو في أوج حنينه لحبيبته البعيدة عنه مقنعا نفسه انه قد شم رائحة مجيئها أو مجيء قطار البصرة الذي يقلها، فيذهب لمحطة القطار باحثا عنها ويدخل في دوامة بحث لا تنتهي الى نهاية الرواية يتخللها بحثا عن حيوات فائته وأناس لم يعد لهم وجود سوى في الذاكرة، الى ان تصل به رحلة البحث تلك الى الاحساس بوجود قطارا يسير في رأسه يجعله يراجع طبيبا نفسانيا لمعالجته، وللقارىء أن يدرك أنه ليس بصدد رواية تجريبية تحاكي اشتغالات حداثوية بفنيتها بل ربما يرى انها رواية كلاسيكية في مبناها الحكائي لكنه سيجد محلا للاعراب في قراءتها والاستمتاع بها عندما تلامسه قضية البحث عن الذات وما تعتريها من وقفات فلسفية تتخلل مونولوغات لم تكن صادرة من نفس لاهية بل نتيجة ذات باحثة عن اكتمال لم تجده في أي من الحيوات التي عاشتها بعد فراقها عمن تحب والتجربة الحسية قادت الشخصية نحو التأمل والتفكير الفلسفي فيقول في ذلك «بدت لي المحطة على خلوها فعلا غابة كما وصفها أميل زولا، غابة عندما ابحث عن خطواتك، عن رائحتك.. اكشاك بيع السجائر والحلويات والمرطبات تصطف أمام أرصفة المحطة واغلبها مغلق..» ( 1)
اكتست الرواية بمفردات القلق والتوهان في موازاة مع مفردات العشق والهيام، وهي اثبات على ممارسة التفكير والتشتت، وهي ايضا الطريق نحو الهذيان فمرتضى قاسم لم يهدأ، لم يستسلم لما هو مألوف ومتاح من نسيان حبيبته والارتباط باخرى وتكوين عائلة وايجاد عمل يحقق له رفاها مستقبليا، انما ظل باحثا عما يحقق وجوده كذات راسخة في العالم؛ فلو ابتغى المغامرات الحسية الجسدية وارتضاها واكتفى بها لما وصلتنا الرواية بهذا العمق الرؤيوي على الرغم من انه يذكر من جملة ما يذكره العلاقة التي كانت تربطه بصديقة تعرف عليها في البصرة حين كان جنديا وكانت بينهما وشائج الصداقة المختلطة بحب من نوع نادر، ذلك لما حدث بينهما من ممارسات جسدية اتفق الاثنان على بقائها للذكرى بينهما لا اكثر.
الرواية على مستوى اللغة كتبت بأسلوب جميل يكاد يلامس الشعر في مواطن كثيرة، أما على مستوى الوصف وتواتر الصور وإيحاءاتها فذلك يجعلها تنزاح نحو خاصية السرد المتفرد بمشهدية وصفية خاصة إذا استحضرنا رواية «موسم الهجرة الى الشمال» التي تمركزت حول خاصية السرد المكتنزة لشعرية الوصف، فربما لا يشير المحتوى الرومانسي بالضرورة الى الوقائع الموسومة، ولكنه يتوسع في ابتكار موضوع تخيلها، وعليه فإن مجمل الأحداث تخضع لآلية أدبية وتراكيب وجدانية تتضمن طابعا مختلفا في طبيعته، وهكذا تظل الشخصية المحورية في حالة تضاد مع النفس وتظل في حالة هيام توحي أنها منتمية الى الواقع كقيمة تفرض نفسها على رجل يبحث عن حبيبته ويتوهم وجودها، أو ربما هي متواجدة حقا ولا تجمعه الظروف بها فذلك ما يثبته صديق مرتضى وهو صاحب مكتب الاستنساخ الذي اسمه حازم وهو يؤكد وصول حبيبة مرتضى التي تدعى (روضة) الى مكتبه سائلة عنه في اليوم نفسه الذي صحى فيه مرتضى وهو يشم رائحة وصولها.
التركيبة النفسية لشخصية البطل في الرواية
لقد جعل البيضاني من روايته تشهد توظيفا للأسلوب الذهني بحالاته التي تراوحت بين «هذيان» يصل الى في بعض الاحيان الى حد « الذهول العقلي» بغية تجسيد العوالم الداخلية النفسية والذهنية المتأزمة والمضطربة لشخصية (مرتضى قاسم) نتيجة هول ما يتصارع في دواخله من رغبة بلقاء حبيبته وهي رغبة مكبوتة في بواطن نفسه وذهنه و لم يظهرها الا لصاحبه حازم، وهو يسعى في لا وعيه لإشباعها وعرض خفاياها وآثارها عليه وعلى عوالمه الداخلية وكيان شخصيته بأكملها ولكن بسبب شدة احتدام هذه الرغبة في داخله وما يرافقها من حالات واضطرابات قد جعلته عاجزا عن ايجاد ملفوظات تؤهله لصياغة كل ما ينتاب نفسه وذهنه فلجأ عقله لفكرة سيران القطار بداخله، على الرغم من أن فكرة امكانية اللجوء إلى القطار الفعلي في المحطة من قبل الشخصية قائمة، إذ أن الشخصية في مثل هذه الحالات «الهذيان» و»الذهول العقلي» وما تعانيه من استيهامات نفسية متأتية من وجهات نظر داخلية تعتمل في قرارات الشخصية وثوابتها وطروحاتها المتعلقة بذاتها حول ما يقع لها وما يقع حولها ومشاعرها المضطربة إزاء كل ذلك يحتم أن «يختلط في ذهنها ما هو واعِ، وما هو لا واعِ، لأن ذهنها وما فيه من افكار وتصورات لا يكون دائما واعيا، بل تمتاز حالة الوعي فيه بأنها تستمر لمدة قصيرة، فالفكرة الواعية في ذهنها للحظة لا يمكنها أن تكون واعية في لحظة اخرى بل تصبح لا واعية أي لا تدركها الشخصية» (2).
الهوامش:
ـ ص24 من الرواية.1
2ـ ينظر: الذات والغرائز ص22، 23، فرويد، ترجمة: محمد عثمان نجاتي، مكتبة النهضة المصرية، مصر د.ت،