روجيه عوطة*
صنع جورجيو ديريتي فيلماً لا يفوّت، عن الرسام الإيطالي من أصل سويسري أنطونيو ليجابو. أول ما يلفت في هذا الفيلم هو عنوانه، «أردت أن أختبئ»، ومردّ ذلك أنه يحيل الى تلك البغية الشائعة هنا وهناك بعبارة «أريد أن أختفي». لا يحرز العنوان هذه البغية، على العكس-وهنا أهميته- يصوبها، بمعنى أنه ينزع من قلب البغية الشائعة تلك، بغية أخرى، وهي الاختباء. إذ تختلف عنها من ناحية إنها، وليس على مثالها، تجعل من فعل التواري فعلاً مجهول المسوغ، أي أنه فعل هوائي لا تحديد له. فهذه البغية، تدفع إلى الاستفهام المباشر، بما هو باب يفتح على مقاربة الفيلم: لماذا أراد هذا الرسام الاختباء؟ ممّن؟
يمكن الإجابة بالانطلاق من بعض العناصر في حياة ليجابو. فهو ولد في زيوريخ قبل أن تموت والدته، فوُضع في عهدة عائلة تبنّته. تسرب من المدرسة، وطُرد منها، ولاحقاً، حمله اكتئابه الحاد إلى المصح النفسي، قبل أن يحاول في ما بعد قتل والدته بالتبني، فيُرحّل من سويسرا إلى غالتييري الإيطالية. خلال كل هذا، ليجابو يخفق في الدراسة، لكنه، وما إن يمسك قلماً ويجره على ورقة حتى يترك خلفه رسماً ما. لا يقدم الفيلم هذه الحكاية بطريقة مستسلسلة، إنما على أساس «فلاش باك» كثيف، يستطيع من خلاله روايتها، وتقديم الرسام فيها كموضوع محدد. بداية، كموضوع لعنف الأب، ثانياً، لسخرية التلاميذ، ثالثاً، المجتمع بشكل عام.
فهو، باستمرار، عرضة للنبذ: نتيجة مسلكه، ثم فشله التعلمي، ثم كونه عاملاً، ثم شكله، ووجهه. إنه المنبوذ، الذي يتنقل من ملجئه في الغابة، حيث يلحق به أطفال سمجون أو راشدون حمقى، إلى المصح الجحيمي، ومن هذا المصح إلى مزرعة ما، ومن المزرعة إلى الغابة مجدداً. بالتالي، هو يختبئ من العنف الذي يوجه له من كل حدب وصوب، والذي يبدو عقاباً له بسبب اختلافه، بسبب تحديده كمريض، أو بشع، أو فاشل، أو صاحب مسالك غير مقبولة.
طبعاً، في هذا السياق، لا بد من ملاحظة تتعلق بكيفية تصوير الفيلم لكل هذا. في مرات كثيرة، لا يقع في الكليشيه، وفي مرات اخرى، يفعل ذلك، لا سيما حين يستند الى تلك العادة السردية، التي يمكن الوقوع عليها في الكثير من الروايات والأفلام التي تتحدث عن حياة رسامين او خلاقين مكثوا في المصحات. هذه العادة تتعلق بالتركيز على طفولتهم بطريقة سطحية، بما هي مصدر عذابهم. لكن، الفيلم نفسه الذي يقترب من التنميط، يعود ويبتعد عنه، بحيث أنه، وحتى حين يقلب حكاية ليجابو رأساً على عقب، يفعل ذلك بشكل لا مبالغة فيه. فها هو ليجابو يتعرف على النحات موزالي، فيبيت في مشغله، ولا يتوقف عن رسم مناظره، التي يلتقط فيها حركة الحيوانات وحركة الطبيعة ككل، خالقاً خطاً يُعرف بـ»الساذج»، وفي «سذاجته» بالتحديد يكمن ذكاء خلقه. ومن لوحة إلى أخرى، تبدأ حياة ليجابو بالتحول، بحيث لا يعود المنبوذ نفسه، لكنه يبقى منبوذاً. في هذا المطاف، من المفيد التحدّث عن ثلاثة أمور.
الأول، هو تلك اللحظة التي عرف الفيلم كيف يُشعر المشاهدين بها: حين بدأ ليجابو عرض لوحاته أو منحوتاته للبيع بمفرده في الشارع، كان هناك دوماً سيل من التهكم ينزل عليه. ما يؤدي إلى تحطيم لوحاته أو منحوتاته من قبله غضباً أو من قبل مضطهديه. عند التحطيم هذا، لا يمكن سوى الشعور بأن ثمة شيئاً يُدمّر في ليجابو نفسه (لا داعي للقول ان الممثل اليو جيرمانو الذي جسده قد برع في ذلك)، شيء يسقط منه او داخله، ومعه، يسقط شيء في قلوب المشاهدين أيضاً. الأمر الثاني، هو أن المجتمع، وحين خفف نبذه من دون أن يستقبله داخله، فهذا على أساس أن يكون منتجاً، ومنتجاً فقط. فليجابو منتج لوحات، يطلبها منه هذا وذاك لبيعها، وهو يحقق له حاجته مباشرةً. كل وجوده في هذا المجتمع مُختزل في انتاجه، الذي، وحتى مع مزاولته له، لا يخلّصه من نبذه، بل يعطيه شكلاً جديداً.
مشهد: يصل ليجابو الى المطعم، الذي كان القيِّم على معرضه قد قال له انه يمكن أن يتناول غداءه فيه يومياً. يأخذه المسؤول إلى طاولة معزولة، حيث لا يراه أحد. على هذا النحو، إنتاجه قلب نبذه إلى ما يشبه ادخاله الى المجتمع بالتوازي مع عزله فيه. الأمر الثالث، هو أن ليجابو يمارس ما يمكن تسميته (لا ترجمة حرفية بالعربية) contre champ، يعني أنه يتكئ على نبذه، لا ليحبه، لا ليتعلق به، إنما ليجعله ظرفاً لتحرره. فهو لا يريد أن يكون في المجتمع، أي، وبشكل من الاشكال، مندمجاً في محل مضطهده. فحين يدعوه القيّم مع عدد من الأشخاص إلى تناول الغداء معهم في المطعم، ويحين وقت وجبته، يأخذ صحنه ويجلس على طاولة أخرى، لكي يأكل كما يحب أن يأكل. كما أن ليجابو لا يريد أن يظل مدفوناً في نبذه، فهو يحب التلذذ هكذا بالحياة حباً وأكلاً ولبساً ودراجات نارية وسيارات وطبيعة ورسماً على الجدران…
ربما يكون أفضل مثال على تحرر ليجابو في نبذه، هو ذلك المشهد المهم للغاية، الذي يقول كل شيء تقريباً. يدخل إلى محل ثياب، يشتري معطف فرو أسود، يرتديه، فيبدأ المارة بالنظر اليه، يستفهم من سائق سيارته عن السبب، فيخبره أن الطقس صيف، ولا حاجة لارتداء معطف الآن. فيجيب ليجابو بما معناه: أنا تعرضت في الماضي للكثير من البرد، ولهذا أرتدي المعطف الذي اشتريته للتو.
هذا الرسام ولد في البرد، عاش في البرد، وحين استقبله دفء المجتمع، الذي لطالما نبذه، ارتدى المعطف في عز صيفه. لكي يعوض عن البرد القديم، صحيح، لكن أيضاً لكي يقول لهذا المجتمع، أو بالأحرى لنفسه قبل أي احد: لي طقسي الخاص!
*عن موقع المدن