محمد رشيد السعيدي
تتوفر القراءة ضمنا على عملية بحث عن الأشياء في النص، عن الدهشة والمتعة والاختلاف، عن التميز، وعن الصنف، وربما ستكشف القراءة – بدون قصد – عن ميزات أخرى للنص، وفي حالة المجموعة القصصية (كتاب الحياة وقصص أخرى) للقاص عبد الأمير المجر والصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق سنة 2018، ربما يجد القارئ ميزة أو أكثر في القصص كلها أو في أغلبها، إذ تم استخدام الرمز في (5) قصص من (8) هي قصص المجموعة كلها، التي قد تندرج كلها تحت تصنيف قصص الدستوبيا، وتوفرت أغلبها على الغرائبية، وبعضها على السخرية، كما يمكن قراءة البعد السياسي في أغلبها، وبوجود قصة واحدة مختلفة في كثير من صفاتها عن أخواتها في المجموعة، هي القصة الأخيرة، التي استخدمت الخيال العلمي لتقديم فكرتها، وكانت أطول كثيرا من القصص الأخرى، وتوفرت على مباشرة وتصريح أحيانا لا يتناسب مع الخيال العلمي، كما توفرت على تناص مع بعض النصوص التراثية التي تعتبر «بلاد ما بين النهرين مركزا للأرض، قريبا من قلعة أور» (ص110)، فمن (آدمها) الجديد سينتج خلق ما بعد خراب الكرة الأرضية، حسب القصة.
لن يجد القارئ في القصص ألعابا فنية كثيرة ومثيرة، فربما كان أسلوب الكتابة تقليديا، مستثمرا الاسترجاع أحيانا، والانتقالات المدروسة غالبا، باستثناء قصة (العظماء يرحلون بصمت.. أحيانا)، التي يمكن اعتبارها قصة مركبة، أو قصة داخل قصة، تشبه رواية داخل رواية، التي كان رائدها في السرد العراقي الروائي عبد الخالق الركابي في ايقونته (سابع أيام الخلق).
عنوان هذه القصة كان مباشرا، وطويلا، مما لا يناسب البلاغة التقليدية، والاعتماد على القوة الداخلية للنص، وقدرته على إيصال الفكرة، وربطت بين وفاتين في وقت واحد، إحداهما خارجية: هي وفاة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، التي رآها راوي القصة الخارجية على شاشة إحدى الفضائيات (ص61) والأخرى داخلية: هي وفاة راوي القصة الداخلية، وهو صديق راوي القصة الخارجية، بإفصاح النص، في حالة مقارنة ربما، بين شخصية معروفة، قد توصف بالعظيمة بسبب الموقع والمواقف السياسية، وشخصية من عامة الناس، لا يعرفها إلا القليلون، ولم تتبوأ موقعا سياسيا مهما، مما لا يسمح بإطلاق صفة العظمة عليها، إلا من خلال مواقف إنسانية، وعائلية، ربما هي التي ستجعله «عظيما» حسب عنوان القصة.
الراوي الأول سيحكي قصته مع الراوي الثاني، وسيتيح المجال للثاني ليحكي قصته الخاصة، والتي لا علاقة للراوي الأول بها، وعلى الرغم من تمتع القصة بحجم (20) صفحة، إلا أنها ستظل في حالة امتحان دائم في عملية الانتقال من راو الى آخر، ومن زمن الى آخر، ربما كان من ضمن فنون السرد، أو من متطلباته، التي تمت مراعاتها جيدا، وبالاستغناء عن الفواصل الإخراجية كالأرقام أو العلامات (***) بين أجزاء القصة، بل كانت ذات سرد متصل، منذ العنوان الى نقطة النهاية.
حين كان الراوي الأول يشاهد مراسيم تشييع ريغان، ويستذكر ما يعرف من تاريخ حياته، يرن هاتفه الجوال، ويستمع الى صوت صديقه علاء الذي سيخبره بوفاة أبي أيوب، وبعد حوار قصير مع علاء، يستمر الراوي الأول بوصف مشاعره، ممهدا لاسترجاع سيتضمن «حكايته التي زقّها في داخلي على شكل جرعات» (ص64)، الجملة السابقة المستلة من القصة توضح أسلوب الكتابة، ليس فقط الانتقال الى الماضي (الاسترجاع) بواسطة «حكايته»، بل ثمة حكاية، توّسع افق القراءة، وثمة «جرعات» أيضا، الحكاية ستأتي بحلقات، بأجزاء، أسلوب النص سيكون عبر الانتقالات من القصة الأولى الى الثانية، ومن زمن الخطاب الى زمن القصة، وإن كانت الأولى أكبر من الثانية، ودور الراوي الأول أكبر من دور الراوي الثاني.
الراوي الأول عاد الى الماضي، ليحكي لقاءه الأول، أو تعرفه على أبي أيوب، في إحدى مقاهي بغداد، في أيام الحصار، ثم فجأة: «قررت أن أذهب الى حيث يسكن» (ص66)، التي لا ترتبط بنهاية الفقرة السابقة: «كان جارا قديما لنا» (ص66)، العودة الى زمن الخطاب كانت مفاجئة وحادة، تختلف عن الانتقالات السلسة أكثر من مرة في فقرة واحدة، «اتصلت بعلاء مرة أخرى (زمن الخطاب)، …، لقد عرفت في آخر لقاء لي معه قبل نحو أربع سنوات (زمن القصة)، أخذت أسير بخطى (زمن الخطاب، …، كما قال لي ذات مرة (زمن القصة)، …، حين أتت بعد حوار طويل معه (زمن القصة)، ثم يقول أبو أيوب للراوي الأول (بدون اسم): «أنا أقرأ لك في الصحف، …، قصصك التي تنشرها (ص66)، التركيب هنا أصبح واضحا، وكثير من أركان اللعبة ظهرت أمام القارئ، الراوي الأول قاص ينشر في الصحف، ولأبي أيوب قصة يرغب في حكايتها للقاص، والقاص سوف يحكيها «أراد مني ان أكتبها» من خلال قصته هذه على شكل «جرعات».
الراوي الأول لا يرغب بالتنازل عن موقعه للراوي الثاني، فيستمر بحكيه قصته، منتقلا من زمن القصة والحوار بينهما، الى زمن الخطاب وذهابه الى بيت أبي أيوب، وربما يمهد لدخوله من خلال: «قال لي ذات مرة» (ص69)، بدون الاستعانة بعلامات الترقيم، والإخراج، أو لون الحرف، للتفريق بين حكي الراويين، ولا يتمكن الراوي الثاني من حكي جزء من القصة بدون تدخل الراوي الأول، عن طريق الحوار مثلا، ومن خلال الحوار ستنفتح باب الحكي أمام الثاني «قال؛ عشت عوالم» (ص71) باستخدام الفارزة المنقوطة في غير محلها، يسترسل الراوي الثاني في حكي قصته، التي تقوم ثيمتها على موضوع تم الانتباه اليه مؤخرا، ربما رائده الروائي عبد الله صخي في روايته (خلف السدة)، هو «هروب» عوائل فلاحية من ريف الجنوب، والسكن «عند تخوم العاصمة بغداد»، يخرج الراوي الثاني من عالم قصته الى عالم قصة الراوي الأول، فيخاطبه: «هذه قصة لك… إن استطعت أن تكتبها»، فينتهز الراوي الأول الفرصة لأخذ زمام الحكي: «قال ذلك…» (ص72)، يعود الراوي الثاني الى الحكي مباشرة، بعد نقطة تنهي الفقرة السابقة.
ويستمر الحكي على هذا المنوال، انتقال من القصة الأولى (الإطارية) الى القصة الثانية (الداخلية) مباشر أحيانا وبالواسطة أحيانا أخرى، وتواجد دائم للراوي الأول وبطل القصة الأولى في حكاية الراوي الثاني وبطل القصة الثانية، الذي استحق صفة العظيم حسب عنوان النص، لأنه من أصول فلاحية شديدة الفقر، فقد أباه وهو طفل، ثم فقد أمه في بداية شبابه، فلم تتوفر له فرصة الالتفات الى نفسه، وتحقيق حلمه في التعليم، لانشغاله بتزويج أخواته الكبيرات، وتعليم أخيه وأخته الصغيرين، بعد انتقال العائلة الى»المدينة التي حازت اسم الثورة» (ص74)، حتى يحصل على فرصة تعليم نفسه القراءة والكتابة، وصار «يداوي جرحه بالقراءة» (75)، في ظاهرة انتشار البطل المثقف في السرد العراقي.