عندما استأصل لنا المشرط الخارجي الغدة السرطانية للنظام المباد، انتعشت الآمال بامكانية استرداد هذا الوطن القديم لمكانته ودوره اللائق بين البلدان التي شقت طريقها الى عالم الحرية والحداثة والتعددية. ولم يمر وقت طويل حتى تعرف العالم كله على نوع وحقيقة القوى والعقائد والمصالح الفاعلة فيه (داخل العراق وخارجه). بعد اربعة دورات انتخابية أعقبت ما يفترض انها مرحلة تأسيسية للمرحلة الانتقالية (2003-2006) نجد أنفسنا وسط قبضة محكمة من الاقطاعيات السياسية والعقائدية والاسرية أشد بؤساً من التجربة اللبنانية. اقطاعيات وفصائل وعصابات وسلاح وتشريعات منفلتة، ركنت مشروع الدولة المنتظرة الى رفوف الاهمال والنسيان. غالبية من انخرط في صناعة عراق ما بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ يحاول ان يتنصل من مساهمته ودوره في كل هذا الخراب المادي والقيمي الذي نتخبط وسطه، ومن دون ادنى شجاعة ومسؤولية يلقي بكل موبقات هذا المشهد المثقل بالفساد والعجز والفشل، على شماعة الآخر والاقدار والشيطان من شتى الاحجام والوظائف والادوار. مع مثل هذه الطبقة السياسية والنخب الثقافية والادارية والاعلامية، لا يمكن انتظار اية تحولات او زحزحات جدية في المستنقع الراهن، والذي ترفده شبكات الفساد المتسللة الى تفصيلات حياة المجتمع وانقاض الدولة بكل ما يحتاجه للتمدد والبقاء.
كنا بأمس الحاجة الى التعددية السياسية والثقافية، المستندة الى اساس مكين من التشريعات الحداثوية المجربة، الكفيلة بالتأسيس لمشروع الدولة الحديثة ومؤسساتها القانونية والادارية المجربة، لكن ذلك اصطدم بنوع من الزعامات والجماعات مسكونة بصرخات وثارات القرن السابع الهجري، تلك القوافل التي فتلت عنق الاحداث الى عكس ذلك تماماً؛ الى حيث الاقطاعيات السياسية التي شفطت الموازنات الاسطورية وسخرتها لبسط هيمنة التشرذم وما يرافقه من منظومات التخلف والانحطاط، والتي اتاحت لعصابات داعش من تحقيق فردوسها المفقود (الخلافة) على ثلث الاراضي العراقية. بعد اهوال وكوارث وتضحيات لا مثيل لها، خسرت داعش المعركة عسكرياً (تم مؤخرا استسلام مقاتليها في “الباغوز” آخر جيب لهم عند الحدود السورية-العراقية) لكن المناخات والشروط التي انتجت مثل هذه الاوبئة (عصابات ما قبل الدولة) ما زالت موجودة وقادرة على اجهاض اية محاولة جادة نحو الحرية والتعددية، ويزيدها تمادياً في هذا المنحى المغاير للمصالح العليا للوطن والناس؛ عدم وجود اية علامات تدل على استرداد العراقيين لعافيتهم ووعيهم بما جرى لهم، وما ينتظرهم من تحديات وجودية.
التجربة الممتدة من 2003 الى 2019 اثبت وبما لا يقبل الشك، على ان مشروع تحويل العراق الى اتحاد هش للاقطاعيات السياسية والاسرية، قد افرغ ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية من مضامينها الاجتماعية والسياسية والقيمية، ليتم فتل عنقها صوب التجربة المريرة للاشقاء اللبنانيين وبشكل أقسى وأشد بشاعة وقبحاً، لما للعراق من خصائص وموروثات وسرديات وخزعبلات مميتة. واليوم وبعد رابع تجربة انتخابية تكشف هذه الاقطاعيات عن قدراتها المتعاظمة على اعادة تدوير هيمنتها على مقاليد حياة المجتمع والدولة ومن دون ادنى منافسة تذكر، ليس هذا وحسب بل نجدهم وبكل رشاقة يتقمصون دور المعارضة لبعضهم البعض الآخر، للتنفيس عن منسوب الشكوى والتذمر التي ترتفع عادة في أشهر الصيف، وعند المفاجئات الكارثية، وهم مطمئنون الا ان “قلوب القوم مع التعددية وسيوفهم عليها”…
جمال جصاني