هل يستغفل ترامب بوتن؟

نينال. خروشوفا
نيويورك

أمضى أغلب العالَم العامين الأخيرين وهو يتصور أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يضع نظيره الأميركي دونالد ترامب حول إصبعه الصغير كالخاتم. ولكن ربما كان ترامب هو الذي يقود بوتن من أنفه.
إن ترامب يحب بوتن، أو هكذا يقول. فبأسلوبه الذي يتسم بالمغالاة على غرار تلفزيون الواقع، امتدح ترامب نهج زعامة الرجل القوي الذي يتبناه بوتن، وتباهى بأنه قادر على تحسين علاقة أميركا مع الكرملين.
وفي هذا الصيف، في أثناء قمتهما الثنائية في هلسنكي، انحاز ترامب إلى صف بوتن، عميل جهاز المخابرات السوفييتية السابق، ضد مسؤولين أمنيين أميركيين حول قضية تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، والذي بات موثقا الآن. ووفقا لتصريح بوتن، فإنه كان يشجع ترامب (لكنه لم يتدخل لصالح ترامب بالطبع) لأنهما يتقاسمان الرغبة في تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين. الآن، يحتاج بوتن أكثر من أي وقت مضى لصداقة أميركا. فعلى الرغم من إعادة انتخابه رئيسا بعد فوز ساحق في انتخابات مارس/آذار، فإن معدلات تأييده انخفضت بشدة منذ ذلك الحين إلى 45%. يبدي الروس امتعاضهم إزاء تفاقم انعدام الأمن الاقتصادي الذي جلبته العقوبات التي فرضها باراك أوباما بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014 (وهي الخطوة التي عززت في مستهل الأمر معدلات تأييد بوتن المتدنية آنذاك). في ذلك الوقت، كانت إصلاحات معاشات التقاعد، التي تضمنت زيادة سن التقاعد والتي استفزت انتقادات شديدة تصب أيضا الزيت على نيران الاستياء الشعبي في روسيا. وربما تتفاقم حالة السخط بفِعل «إعياء العداوة» الذي تحول إلى حالة عامة بين الروس، الذين سأموا ببساطة سياسة بوتن الخارجية العدوانية في أوكرانيا وسوريا، ودعايته المتواصلة المعادية للغرب.
من سوء حظ بوتن أن ترامب لم يفعل إلا أقل القليل لتحسين العلاقات الثنائية، على الرغم من بعض المبادرات الدبلوماسية، بما في ذلك عِدة دعوات موجهة إلى بوتن لزيارة البيت الأبيض. وبرغم أن إقصاء ترامب لحلفاء أميركا يخدم رغبة بوتن الظاهرة في إضعاف الغرب، فمن غير المرجح أن يكون اتخذ هذه الخطوات لصالح بوتن. من ناحية أخرى، فرضت الولايات المتحدة في عهد ترامب عقوبات إضافية أدانتها روسيا ذاتها بوصفها «شديدة القسوة».
في مارس/آذار، وفي الرد على الهجوم بغاز الأعصاب على العميل الروسي المزدوج السابق سيرجي سكريبال وابنته في المملكة المتحدة، طردت إدارة ترامب 60 دبلوماسيا روسيا، وهو أكبر عدد منذ الحقبة السوفييتية. من منظور بوتن، لابد أن توقيت هذا التحرك ــ الذي جاء مباشرة بعد تهنئة ترامب له بحرارة على انتصاره الانتخابي ــ جعله أكثر مرارة وإثارة للحنق.
في الشهر التالي، أقرت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات ضد أكثر من عشرين من الأفراد الروس والشركات الروسية ــ بما في ذلك قطبي النفط والألومنيوم أوليج ديريباسكا وأليكس ميلر ــ مما تسبب في هبوط أسعار أسهم الشركات المتضررة بشدة. وفي أغسطس/آب، منعت إدارة ترامب الشركات الأميركية من بيع توربينات الغاز والمعدات الإلكترونية إلى روسيا، نظرا للتطبيقات العسكرية المحتملة لهذه المنتجات.
علاوة على ذلك، سوف يكلف القرار الذي اتخذه ترامب بفرض رسوم جمركية على الواردات من الألومنيوم والصلب الاقتصاد الروسي ما قد يصل إلى ثلاثة مليارات دولار في العام المقبل، برغم أنه لم يكون موجها ضد روسيا تحديدا. ومؤخرا، أعلن ترامب أنه يعتزم الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى، وهي اتفاقية ثنائية للحد من الأسلحة تعود إلى زمن الحرب الباردة. وبرغم اتهام كل من الجانبين الآخر لمدة طويلة بانتهاك بنود هذه المعاهدة، فإن فكرة التخلي ببساطة عن الحد من الأسلحة كانت تُعَد دوما ممارسة بالغة الخطورة، إلى أن جاء ترامب.
ظَل الكرملين على استعداد للاعتقاد بأن فشل ترامب في الوفاء بوعده بتحسين العلاقات كان نتيجة للمعارضة في الكونجرس، ناهيك عن شيطنة بوتن من قِبَل الديمقراطيين ووسائل الإعلام في الولايات المتحدة. واستنادا إلى هذا المنطق، فمع تشككهم في أي تصرف قد يبدو وكأنه يفيد بوتن، يتعين عليهم أن يمنعوا ترامب من احتضان روسيا على مستوى السياسة.
لكن الحقيقة هي أنه لا الحزب الديمقراطي ولا وسائل الإعلام حققت نجاحا يُذكَر في كبح جماح ترامب. أما عن الجمهوريين، الذين يسيطرون على مجلسي الكونجرس الأميركي، والذين كانوا معارضين صاخبين ذات يوم ــ مثل السناتور ليندسي جراهام والسناتور تِد كروز ــ فإنهم الآن يلعقون حذاء ترامب. ومع استئساد ترامب على حزبه لحمله على الخضوع، يبدو من غير المرجح أن يُلقى اللوم على أخرين عن فشله في الوفاء بوعده لبوتن.
التفسير الأكثر ترجيحا لخيانة ترامب للرئيس بوتن، أن خطابه الدافئ كان مدفوعا، كأي شيء آخر يخرج من فمه، برغبته في الحصول على تقديرات، وليس أي اهتمام حقيقي ــ ناهيك عن التزام حقيقي ــ بمساعدة الكرملين. ولنتأمل هنا كيف أخلت مبادرات ترامب المبكرة تجاه رجل قوي آخر، وهو الرئيس الصيني شي جين بينج، السبيل لحرب تجارية شاملة ضد الصين، التي يصورها ترامب الآن على أنها عدو لأميركا.
بطبيعة الحال، كان العالَم يتوقع من ترامب وعودا جهيضة ونزوات. الأمر المثير للدهشة هو كيف أساء بوتن قراءة الموقف إلى هذا الحد. فكيف أمكن أن يفشل مثل هذا المراقب الحريص للولايات المتحدة، الذي شحذت مهنته السابقة كجاسوس قدرته على فك رموز الدوافع والنوايا التي تحرك الناس، في إدراك زيف وعود ترامب؟
إذا كان أي شخص يعرف أن الأفعال أعلى صوتا من الكلمات فهو بوتن، الذي تتضمن كلماته غالبا إنكارا صريحا لآثام موثقة، من التدخل في الانتخابات الأميركية إلى انتهاك المعاهدات. ومع ذلك، يظل بوتن على تجاهله لتصرفات ترامب ويسعى إلى عقد المزيد من الاجتماعات « للبقاء على اتصال» مع الرئيس الأميركي المجامل دوما، مثلما حدث في الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى في باريس أو في قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين. يبدو أن بوتن يتصور أنه كان يستخدم ترامب العاجز استراتيجيا لتحقيق غاياته الخاصة. والواقع أن ترامب نجح في سحب الجميع إلى عالَم تلفزيون الواقع، حيث يخدم كل من الإحساس والمبالغة والتضليل هدفه الحقيقي الوحيد: أن يكون «الناجي» الأخير على الجزيرة.
وعندما يدرك بوتن أخيرا أنه كان ضحية خداع، فربما يكون العالَم دفع بالفعل ثمنا باهظا من استقراره السياسي، وأمنه الاستراتيجي، فضلا عن الأضرار البيئية. وسوف يكون لزاما على بوتن أيضا أن يدفع الثمن.

ترجمة: إبراهيم محمد علي
نينا ل. خروشوفا أستاذ الشؤون الدولية في جامعة نيو سكول، وكبيرة زملاء معهد السياسة العالمية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة