كه يلان مُحمد
«خير جليس في الزمان كتاب» هذا ما سجلهُ المتنبي قبل مئات السنين عن مُصاحبة الإنسان للكتاب بوصفه أنيساً يُقيم للمرءِ عالماً صاخباً بالأفكار خالياً من الإكراهات المُضنية وبذلك تُصبح الوحدة الإختيارية عالماً مُستقلاً له خصوصياته المميزة عن المناخ الخارجي، الحالة التي تراها بصورة أخرى لدى بطل رواية (عزلة صاخبة جداً) للكاتب التيشكى بوهوميل هرابال «منشورات المُتوسط 2017» وما يُنضافُ إلى عالم (هانتا) هو الآلة التي تسحقُ الكتب والعاملُ بدوره يقضي أيامَهُ في متابعة العناوين التي تلتهمها الآلة الهيدروليكية،التي تبدو في صورة وحش فاتح فمه على شتى الكتب والأوراق العتيقة ،إذ ينقلُ لك (هانتا) إنطباعاته عما تمرُ أمامه من المؤلفات المُتنوعة، كما أن قبو منزله أيضاً لايختلفُ عن بيئة عمله، بل يُمني نفسه بنقل آلته إلى البيت حالماً يبلغ سَن التقاعد،ولدى عودته إلى البيت يحملُ معه أكواماً من الكتب التي صارت شغله الشاغل بحيثُ قلما ينتبه لما يدور حوله إذ أن أصداء أفكاره وطنين تخيلاته تغلبُ على الضجيج الخارجي في الشارع والطرق ولايرى أضواء الإشارات وعلامات المرور وتختارُ خطواته درباً وحيداً متعوداً عليه يومياً، يشيرُ في سياق سرده الذاتي بضمير المُتكلم إلى أعلام الفكر والأدب باحثاً عن خيط واصل بين حياته وما إستودعوه في مضان كتبهم من التصورات ،وأطروحات فلسفية،كما يستعيدُ نتفاً من طفولته وحلمه بأن يكون وسيماً.فضلاً عن ذلك يلتقط من بين يتراكم من الكتب بعضَ مايهم غيره مثل كتاب سجل تشارلز ليندبيرغ لأول عملية طيران حول المُحيط، حين يراه مالبث أن تذكرَ فرنتيك شتووم الذي إقتنعَ بأنَّ إيكاروس كان مُنذراً بقدوم المسيح.لاتخلو الرواية من المؤشرات التي تُعين البعد المكاني في الرواية حيثُ مدينة براغ ومعالمها تلقي بظلالها على أجواء العمل وتطيب للبطل الضد نسائم نهر الفلتافا عندما يعبرُ ساحة المدينة وتروق له منتزهات وأحياناً يركنُ إلى إحد البارات غير أن ما يلاحقه بالإستمرار هو طنين الآلة التي لايوجد ما يماثلها إلا سيف ديموقلس.
جنة مفقودة
يتخذُ مسار حياة هانتا منحى أحادي البعد وتتكرر سلسلة من الوقائع يومياً كما أن أفق علاقاته محدود جداً، نادراً مايتواصل مع الآخرين بإستثناء من يسميه بأستاذ الفلسفة الذي يعطيه مبالغ مالية بين فينة وفينة أخرى كما يقدم هانتا من جانبه خلاصة المقالات المنشورة عن المسرح في الصحف لمن يسميه بالأستاذ،فالأخير يوصيه أيضاً بحسن التعامل مع الرجل العجوز،ضفْ إلى ذلك فإنَّ المادة المسرودة لاتخلو من صور الماضي حيث يستمدُ هانتا من ذكرياته مع مانسا مايخفف عليه قسوة الحاضر ومنغضات عيشه ولاينسى دعواتها المُلحاحة بالإنتقال نحو المكان الذي تقيم فيه، بالتجاور مع مايحكيه عن أيامه الرتيبة وإفصاحه عن إنفعالاته الداخلية وهربه من النوم بإسرافه في شرب البيرة،يتناول الراوي تجربته مع الغجرية التي تظل مجهولة الأسم حتى نهاية الرواية،هنا يكشفُ وجهاً آخر من حياة هانتا يبدو فيه مع الغجرية أكثر صفاءً وبساطةً، غير أن هذه الحالة لاتدوم وذلك بعد إختفاء الغجرية ومن ثُمَّ يقرأُ في الصحف بأنها وقعت في قبضة الجاستبو،وحين يخيبُ أمله بعودة عشيقته بعد نهاية الحرب يُحرقُ الطائرة الورقية التي كان يطلقها الإثنان إلى السماء تعبيراً عن سعادة عارمة،أنذاك يترددُ هانتا مقولته التي هي وليدة لتجاربه «أن الجنة ليست إنسانية ولا أي شخص له رأس بين كتفيه هو إنساني» يتضحُ مما يذكره مُتلِف الكتب نزعته العبثية إتجاه الأمور الحياتية ،نتيجة ما عاشه من المرارة على الأصعدة كافةً خصوصاً معاناته العاطفية مع مانسا التي لايستطيعُ أي الشمبانيا ولا الكونياك في وسعه أن يمحو صورتها في ذهنه.لاينفصلُ السردُ عما تنطوى الكتب المتراكمة في القبو من المقولات والإقتباسات وهي تأتي مناسبة مع المستوى النفسي ل(هانتا) (نحن أشبه بحبات زيتون فقط عندما نسحق نًظهر أفضل مالدينا) هذا المُقتبس يبينُ تأزمه النفسي .
التحول
مايؤثث عالم هانتا هو الكتب والآلة التي يراقبُ أزرارها بالإستمرار وهي تسحق الأوراق القديمة،وبما أن العمل الروائي يتكيء على الرسالة التي يحملها إضافة إلى أبعاده البنائية لذا فإنَّ إدراك مكونات تلك الرسالة يصبحُ جزءاً من إنشغالات المتلقي،وما يظهر بالوضوح في رواية (عزلة صاخبة جداً) هو محاولة كاتبها إماطة اللثام عن تهالك حياة الإنسان في الأنظمة الشمولية إذ تضاعفت محنته إثر تغول الآلة لدرجة أن التطورات التكنولوجية تفرض شروطاً جديدة عليه بحيثُ يصبحُ كائناً مراقباً ومتفرجاً من دون فاعلية لذلك يرتعبُ هانتا بمجرد مايرى الآلة الجديدة التي يروج لها الحزب الإجتماعي الذي بحد ذاته أنموذج لكل أحزاب تسلطية، وما يُفهم من ذلك أنَّ الأنظمة الكليانية تغلغل أكثر من خلال تجنيد الآلة في كل جزئيات الإنسان.