جواد غلوم
يُحدّثني جسدي لائماً:
أعجبُ منك أيها الغريبُ الذي أتلبّسهُ مرغما
يومَ أذنَ اللهُ أنْ يلفظَــك رحمُ أمّك ويستودعَـك فيّ
أشرتَ لي أن أظهرَ عرياناً، ملطّخاً بالدماء
بلا جراحٍ سوى تظاهرةٍ حمراءَ تترقبني لاحقاً
يزفّني البكاءُ الى عالمٍ فسيحٍ غارقٍ بالآثام
أنامُ على أرضٍ عاقّــةٍ ، امتلأت بالشرور
سريري مهْدٌ خشبيّ صنعوه من شجرةٍ لا تثمر
أتغذى لبَناً خالطهُ دمٌ من ثدْيٍّ معارٍ بثمنٍ بخس
منذ أن ماتتْ أمي وهي تتمخّضُ بي
حبوتُ وقويَتْ أطرافي
تحسّستِ الارضُ جِلدي
دعكتْني بأديمِها وترابِها ، عفّرني
وأرمدَ عينيّ، التصقتُ بها أمّاً رؤوما
ذقتُ اول « بروڤا « عذابٍ ووعدتني بالمزيد
ستقلعُ غصناً اخضرَ من الشجرة المهْد ذاتها
يلسعُ ظَهري كهراوةِ شرطيٍّ حانق
يحمرُّ جسدي سياطاً من جِلْد حيوانٍ ..
ماتَ طريدةً خائفة
ومن حوافر خيولِنا المهزومة
تُصنعُ كمّاشاتٍ لتقلعَ أظفاري
تعلّقني مقلوباً على مروحةٍ منزوعةِ الرياشِ
في سجْنٍ صحراويٍّ ناءٍ
أرفعُ يدي مُكْرَهاً لتُفتحَ لي بواباتُ المرارات
تفتحُها على مصراعيها مرحّبةً مهللة
تدورُ بي فأرى كلّ صداع المحزونين المأسورين
وهبتُ لحمي لأنيابِ الوحوش طعْماً رائقا
نذرتُه للضواري والكواسر الجائعة
وبقبضةِ ساطورٍ حادِ الحوافي
يتقسّم جسمي ثلاثاً
فذا رأسي رهينةٌ لمحقـقٍ قذر اللسان
يستجوبني مخبولا بسكوتي
وافتضاح سرّي
وذا صدري ينوءُ بأثقالهم
ويخسفُ أضلاعي ليدنو من قلبي
وثالثة الأثافي، ظَهري خارطةٌ للسعات سياطهم
كم لاعَبوا عورتي هازئين بي
خدشوا فكري بالشتائم
بصقوا في صحْني، لوّثوا زادي مِنَّــةً
أرمَى أخيراً في زنزانة محشوّة باليأس
يسامرني القملُ وآثار الموتى
تصدمُني الشعاراتُ المصبوغةُ بالدم على الجدران
أتلمّسُ بشَرتي الواهنة المحروقة
افترشْتُها منفضةً لرماد سجائرهم
ومطفأةً لجْمرِ أحقادِهم
أيّ جسدٍ صدَفيّ يطيق أثقالك!
كم من جلاّدٍ أبصرتَ نفثَ في وجهِك سبابَه !
كم من كدمةٍ تلقّيتَ خرجتْ يدُها النجسة
من دورة المياهِ بلا اغتسال !!
كم من حذاءٍ لعقتَ بلسانِك توسّلاً
لتطلبَ هنيهةً من الهدوء !!
أتذْكرُ البلطةَ التي فتّـتَـتْ عظمَك؟
ماءَ النار التي اكتويتَ من وقْعِها على خصيتيك
أما زلتَ تشتم السماءَ وأربابَها
لأنها ساكتةٌ كالمقابر؟
غير انها تزداد هياجاً وعويلا
تمطرُنا بتهديدِها ووعيدِها
تصمّ أذانَنا بصخبِ الويل والثبور
حالما ترتخي حبالُهم برهةً
سألوي عنقَك أيتها الحياةُ المريرة القاسية
أمرّغ فيكِ الأرض
قبل أن تُحيليني رفاتاً
قبل أن أسحقَ بسرفاتِ دباباتهم
وأشنق بحبالِهم ويُخنق عنقي بأكفِّهم
فاني تعلمتُ أن اتلقّى النيران الصديقة
يوم صُدعَ رأسي بمطارقِ « البروليتاريا «
وحُزّت رقبَتي بالمناجل البلشفية
وقُيّض لي أن أكون أذناً صاغية
لعواء السلفِ الصالح وعربدة الثوّار
حينما يعتلون أكتافَـنا في التظاهرات
تزبدُ أفواهُهم بالهياجِ
يُخيّلُ اليّ إني عقدتُ وثاقاً محكماً
بين عنُقي ودائرة المشنقة
منذ ان ارتديت البدلة الحمراء عنوةً
على يد سجّاني
وبمباركة فضيلة المفتي
وموافقة الرفيق الشيوعيّ
كل مناي ان أتشفّى منكم
حرمتموني ان ارقصَ فرحاً
وأعدّ العدّة لأتعلم « البانتونيم «
أدور في حلقات الرقص مزهوّا بجسدي
أريكم عروضي الجميلة لتأسر أنظاركم
عوضاً ان تَدمى وتتورّمَ أطرافي بزنزاناتكم
ما ضرّ لو كنتم ندمتم عن معاصيكم !!
هاتوا لي مشفى يعيدُ لي فتوّتي
يقوّمُ أقدامي
ويُلينُ جسدي
يُصقلُ حنجرتي
لأمتهنَ براعة الغناء
وأغرّد راقصاً
أطيرُ مع الفراشات مرحاً بين الورود
ستنبتُ رياش جناحيّ التي قصصْتموها
أوشكتْ نقاهتي ان تنتهي قريباً
لأنتفض من جسدي، زنزانتي الضيقة
فافرشوا لي السجادة الحمراء
وصُفّوا مُصفّــقيكم وحاملي عبارات الترحيب
شُفيتُ تماماً من خزعبلات السماء والأرض
أنا الآن أجهز بقامتي الفارعة