أحمد فضل شبلول
في روايتي «اللون العاشق» تحدث المستشار والفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد عن مقتل شيكوريل موجهًا سؤاله للموديل الشعبي حلاوتهم عندما كانا يتجهان لمحل شيكوريل بشارع سعد زغلول في الإسكندرية:
هل تعلمين أن صاحب محلات شيكوريل بالقاهرة والإسكندرية، قُتل عام 1927 في بيته بالقاهرة؟
لا والنبي لا أعرف. من الذي قتله، ولماذا؟
قال لي صديقي القاضي محمد مظهر بك رئيس التحقيقات في تلك القضية الشهيرة التي كتبت عنها الصحف والمجلات وقتها، أن سائقه اليوناني الجنسية هو الذي قتله بمساعدة آخرين، بهدف سرقة أمواله ومجوهراته. فقد كان الرجل ثريًّا ويطمع فيه كل من حوله. قاموا بتخديره هو وزوجته، وعندما بدأ يتنبه ويقاومهم قاموا بقتله.
وقد سعدتُ كثيرا عندما قرأت في الجزء الأول من كتاب «هكذا ترافع العظماء» للمستشار الأديب بهاء المري نص مرافعة صاحب العزة مصطفى حنفي بك رئيس النيابة في هذه القضية، وقد أدلى بوقائع وقدم أدلة وبراهين أقنعت المحكمة الموقرة، فقضت بمعاقبة القاتل دار يوجا كويل بالإعدام. وقد أشار رئيس النيابة في مرافعته بقيام البوليس المصري بواجبه، فأضاف صفحة جديدة إلى صحفه المجيدة، وقام المحققون من الأجانب والوطنيين بواجبهم، موضحًا أن عقوبة الإعدام –التي طالب بها– لن تعيد إلى الضحايا أرواحهم، ولا إلى الأيامى أزواجهن، ولا إلى اليتامى آباءهم، ولكنها مع ذلك أقصى ما تصل إليه العدالة البشرية، أما عدالة الله فستكون شديدة، جزاءً وفاقًا لما جنت أيديهم.
وأنا أعتقد أنه لو سبق لي الاطلاع على نص مرافعة النيابة في تلك القضية، ربما كنت غيرت بعض الشيء من حديثي عنها على لسان محمود سعيد.
هكذا يكون تأثير كتاب المستشار بهاء المري في أدبنا المعاصر، فهو يحتوي على الكثير من القضايا الخطيرة والمهمة في تاريخنا المعاصر والتي ترافع فيه كبار المحامين ووكلاء النيابة المفوَّهين، فكانت اللغة العربية تجري على ألسنتهم ومرافعاتهم عذبة مُبينة فصيحة معبّرة، أحيانا تجنح إلى المجاز الأدبي، وأحيانا إلى التقريرية والمباشرة حسبما يقتضي الحال، وهكذا يكون الأدب القضائي الذي لفتنا إليه مؤلف الكتاب وجامع مرافعاته.
وفضلا عن ذلك فإنني أعتبر هذا الكتاب قطعة من تاريخ مصر العام، وليس التاريخ القضائي فحسب، فمعظم –إن لم يكن كل– القضايا التي ترافع فيها هؤلاء الجهابذة تابعها الملايين داخل مصر خارجها، ونام الآلاف وصحوا على وقعها وتأثيرها، ومن ثم فهي قضايا رأي عام، أو قضايا شغلت الرأي العام، في المقام الأول، وبالتالي أصبحت قضايا جماهيرية جوهرية، يتحدث عنها الجميع، وليس الإعلام فحسب.
ومثل هذه القضايا والمرافعات التي دارت حولها أو في صلبها، تنتظر دائما الصائغ أو الجواهرجي الذي يأتي فيعيدها إلينا مرة أخرى في صيغة عمل إبداعي روائي أو قصصي أو مسرحي، وهو ما فعله على سبيل المثال أستاذنا نجيب محفوظ في روايته الشهيرة «اللص والكلاب» حيث استخلص من ملفات القاتل محمود أمين سليمان الذي لُقب بسفاح الإسكندرية رائعته الروائية.
يقول نجيب محفوظ عن اللص والكلاب «استلهمتُ حادثة نشرتها الصحف لكن الحقيقة أن تلك الحادثة لم تكن سوى المفجِّر الذي ساعد في إطلاق ما كان مخزونا لديّ من أفكار ومشاعر تتعلق أساسا بمفهوم الخيانة، وكيف يمكن لمن يحيطون بشخص معين أن يخونوه، أي أن ذات الأديب لا يمكن تجاهلها، فهي دائما هناك».
وعلى ذلك فإنني أعتقد أن الأديب الذي سيقرأ هذه المرافعات التي ترافع فيها العظماء من الممكن أن ينسج عشرات الروايات مثلما فعل محفوظ، في «اللص الكلاب» وأيضا في «ريا وسكينة» التي كتب لها السيناريو، ولم تطبع في كتاب. فالمادة الخام لعشرات القضايا والمرافعات أمثال قضية دنشواي التي استغرفت حوالي 40 صفحة، أو قضية مقتل سوزان تميم التي استغرقت حوالي 33 صفحة، أو قضية اغتيال بطرس غالي باشا، أو محاولة اغتيال مصطفى النحاس باشا، واغتيال أمين عثمان، ونسف محكمة استئناف مصر، وقضية طعن طه حسين في القرآن، وقضية الكشح، وأحداث استاد بورسعيد، وأحداث مكتب الإرشاد، وغيرها من القضايا التاريخية، أصبحت مرافعاتها بين أيدينا.
لقد اختار المستشار بهاء المري إيراد أكثر من 70 قضية مصرية، جاءت في حوالي 1600 صفحة في ثلاثة مجلدات فاخرة، كُتبتْ مرافعاتها في صفحات التاريخ بأحرف من نور، وخلّدت أصحابها من أساطين القضاء من رجال النيابة العامة والمحامين، لنقرأها بعمق، ونتدبرها بحكمة، ونستقرئ ما بين سطورها بفكر، ونغوص في طريقة بنائها، وكيفية صياغتها وصناعتها، ودلالة ألفاظها بتمعن، واستنباط الهدف من كل جملة ومراميها، من هنا نتدبر، ونتعلم، ونقتفي أثر هؤلاء العظماء.
وأعتقد أن هذا الكتاب يقدم فرصة ذهبية أيضا للمحامين الشباب، ووكلاء النيابة الجُدد، كي يتعلموا كيف تكون المرافعات في ثوب أدبي رائق، وفي سياق لغوي معبر ومقنع، وفي منطق واضح وجلي وذكي، يستطيع أن يغيّر من اتجاهات المحكمة، ومن أفكار القاضي الذي قد يُبصر جديدا أثناء المرافعة، أو يقتنع برأي صاغه المتحدث أو المترافع في جملة أدبية مؤثرة تنطق بالحقّ وتقدم الأدلة والبراهين الساطعة الناصعة للبراءة أو العقاب المناسبين للحالة.
وأعتقد أنه ليس الهدف من نشر هذه المرافعات هو تمجيد الحادثة بقدر ما هو تمجيد المرافعة نفسها التي أسهمت في صدور الحكم على الحادثة ومرتكبيها، وأيضا ليست أي مرافعة، ولكنها المرافعة الرصينة الذكية التي تتمتع بجماليات أدبية وبلاغات أسلوبية ترقى لأن تكون مثلا يحتذي للمرافعات التي نريد لها أن تسود مجتمعنا القضائي وساحات محاكمنا وقاعاتها العادلة.
وقضية مثل محاولة اغتيال كاتبنا الكبير نجيب محفوظ مساء 14 أكتوبر 1994 أمام منزله في حي العجوزة بالقاهرة، والتي هزت الرأي العام داخل مصر وخارجها، لم أجد لها ذكرًا في كتاب «هكذا ترافع العظماء»، وباطلاعي على بعض التحقيقات حول تلك القضية وجدت أن معظمها كان بالعامية المصرية، ولا توجد فيها تلك الالتماعات والإضاءات اللغوية والأسلوبية التي يبحث عنها المري في القضايا والمرافعات.
ويفهم من ذلك أن الهدف ليس تجميع مرافعات في قضايا مهمة فحسب، ولكن اللغة والأسلوب والطريقة والحالة التي تتلبس المترافع سواء كان محاميا أو وكيل نيابة، هي ما يبحث عنه مؤلفنا، وهي الفيصل بين مرافعات قضية وأخرى.
وربما ينطبق الحال أيضا على ملف قضية ريا وسكينة، تلك القضية التي شغلت الرأي العام طويلا وكانت بمثابة اللغز الذي حيَّر الكثيرين، وهزت المجتمع السكندري خلال عامي 1919 و1920، وحتى تاريخ إعدام المشاركين في 21 و22 ديسمبر سنة 1921. بعد أن تم اغتيال 17 سيدة في حي اللبان، حيث لم يذكر المؤلف شيئا عنها، رغم أهميتها في تاريخ القضاء والعدالة.
ونؤكد على ما قاله محمد باشا علي علوبة من أن «المرافعة ليست هي البلاغة فحسب، وإنما هي فن خاص قوامه سهولة التعبير، ونظام التفكير، وقوة الحجة، الغرض منها إفهام القاضي وإقناعه بلا ملل وبلا سأم».
وفي الوقت نفسه نثمن رأي المؤلف بأن لغة المحاكم –من مرافعات وأحكام– جزء من أدب كل أمة، هذه اللغة ليس لها عن الأدب غنى، وللأدب فيها كل الغَناء.