ليس من الضروري أن يلغم المرء جسده، ويفجره وسط الأعداء، ليموت مع عدد كبير منهم، حتى يتحقق قيامه بعملية استشهادية. فهناك الكثير من الأفعال التي تقود إلى التهلكة، دون الحاجة إلى متفجرات. وبعضها يدخل ضمن تعاملات إنسانية محضة، مثل الزواج والوظيفة والموقف السياسي والاختلاف الفكري. فالإقدام على مغامرة غير مضمونة العواقب، ليس إلا انتحاراً ذا دوافع أخلاقية بحتة.
وقد قرأت مثل هذا التوصيف لكاتبة مصرية معروفة، ألقت بنفسها في أتون عمليتين «استشهاديتين» من هذا النوع، هما تجربتا زواج، كانت في كلتيهما تشعر انها تؤدي خدمة إنسانية، وتخف لإنقاذ رجل من الصعلكة، أو العزلة، أو الفوضى، أو الضياع. كان أحدهما شاعراً مصرياً، أما الآخر فشاعر وأديب عراقي. ومن الغريب أنها لم تلق حتفها في كلتا التجربتين، ولم تتعرض للأذى أو الضرر الجسدي، في حين توفي الاثنان الواحد بعد الآخر دون ضجيج.
وقـد زجـت هـذه الكاتبـة فـي السجـن ثـلاث مـرات، بسبـب مواقفهـا السياسيـة تارة، وجرأتهـا المتناهيـة في الكتابة تـارة أخرى. فقد كانت تحمل أفكاراً ثورية واشتراكية وإسلاميـة. وكانـت معارضـة لكـل الحكومـات التـي عاصرتهـا. فقادهـا قلمها الـذي كرستـه للكتابـة فـي الصحـف الكبرى إلى معارك عديدة مع رؤسائها، بعد أن أدركوا أنها تعرض مؤسساتهم إلى الخطر، وتضعهم في مواجهات غير متكافئة مع السلطة. فرموا بها إلى الشارع حيناً، وإلى السجن حيناً آخر. وفي المرة الثالثة سيقت إلى الاعتقال مع نخبة كبيرة من «مراكز القوى» في أيلول 1981 وخرجت بعد حوالي شهرين. ولم تعد للسجن مرة أخرى، ليس لأنها تعلمت من التجربة، بل لأن ظروف الصراع باتت مختلفة تماماً.
كان هناك كتاب مصريون عرفوا بانتمائهم للسلطة، هيمنوا على المشهد الثقافي، بوجودهم على رأس مؤسسات إعلامية كبرى، مثل دار الهلال، ناصبوها العداء.. وكان هناك آخرون يروجون لعادات غربية خارجة عن الذوق العام في بلد إسلامي مثل مصر. ولأنها متدينـة بطبعهـا وانتمائهـا الأسـري، فقـد وجدت الفرصة سانحة لعملية استشهادية من نوع آخر، أي الغمز من قناتهـم علـى صفحـات الجرائـد والمجـلات. وبالتالـي تحمـل ردود أفعالهـم الغاضبـة.
إنني لا أستغرب أن يعمد الحاكم إلى تصفية خصومه، أو الزج بهم في المعتقلات. فلديه الكثير من المشاغل التي تجعله في غنى عن الاستماع إليهم، والوقوف على ما يريدون. لكني أستغرب أن يعمد بعض الكتاب إلى التشويش على زملائهم لدوافع ثقافية أو سياسية. وكان يكفي أن يعلن أحدهم أن هذا العمـل يتجافـى مع العقل، ولا يتماشى مع الواقـع، ليكـون الكاتـب نزيـلاً دائمـاً فـي السجـون، أو طريـداً مزمنـاً للسلطـة.
ربما يكون المقال الذي يكتبه شخص ما في مجتمعاتنا «عملية استشهادية» بحق، يتعرض بسببها إلى ألوان التهديد. وكان يكفيه عقد أو عقدان، حتى يدخل منطقة الأمان، بزوال ذوي الشأن، الذين لا يمكن الاقتراب منهم وهم في أوج قوتهم، إلا بمشروع عملية استشهادية لا تحتمل التأويل.
.محمد زكي ابراهيم