سلام إبراهيم
يظاهر الجدار الأصم. وساقاه ترتكز أصابعهما، على حافة الجدار المقابل بفتحاته الأربع. يحملق بمخاريط الضوء الساقطة جواره وحوله وعلى جسده الخامد. ينصت لتخافت بقايا ضجيج ماكينة الخياطة التي هدأت منذ هنيهة، سبقها انقطاع لغط النسوة اللواتي تخافت خطوهنَّ المصحوب بخفق عباءاتهن السود. في سكونه المتحجر.. في معناه الجديد شديد البدائية حيث استحال وجوده إلى مجرد غزال مذعور في غابة.. ضاق معنى الحياة.. إلى مجرد رغبة في البقاء وعب الهواء. اكتشف أن العديد من طباعه قد تغيرت. أكسبه طول المكوث في الحلكة والصمت طباع حجر الجدار المنخور. سكون وعطن.. خواء وتآكل.. تأرجح على حافة الانهيار.. وعدم الرغبة في التحرك حتى أنه عاد لساعات طوال يتحجر تحجر آجرٍ مفخور. يحملق بيده الملقاة جواره، بثنية ساقيه، بفتات الجص المتراكم على قميصه، وكأنها تفاصيل تعود لتمثال قديم في معبد مدفون. يتخافت خطوها الذي يعرف إيقاعه البطيء الخفيف كأنه حفيف أجنحةٍ. إنها تتجه نحو المدخل. كفت منذ أسابيع عن إخباره حينما تغادر. كانت تفعل ذلك في الأيام الأولى، كأنها نسيته في دوي السكون، في تحجره.
كل شيء في هذا البيت المنزوي في زقاق من أزقة وسط المدينة ـ الجديدة ـ يستدعي الصمت. صمتٌ محاط بضجيج الأسواق القريبة واكتظاظ الشوارع بالأطفال الحفاة. صمتٌ مثل بركة يترسب في قاعها حال خروجها الذي عاد في الأيام الأخيرة يكاد يكون يومياً، بل أحياناً تقضي ليلتها عند عمته الثانية في طرف المدينة البعيد. يعدل جلسته. يستند إلى ركبتيه. يطل من الثقب الوسطي. يلصق جبهته المفتتة ببشرة الآجر المتآكل حول فتحة الثقب المربعة. يتألق الدوي الأليف، نائياً، قريباً. يستكين في بركة خوائه، غير راغبٍ بالنزول كما كان يفعل في الأيام الأولى كلما خلا البيت. ملَّ التحديق المضني عبر زجاج النافذة العالية المطلة على المارة الذاهبين والقادمين من السوق المسقوف وإليه. يحملق بحنيات الأبواب والشبابيك العمياء المستعملة وسط الباحة كمنصات.. بتقعر قبة زجاج سقف الباحة المنقوش بزخارف ملونة، وطيور بيض ترف بزرقة الزجاج السميك، المرصعة أطرافها بشجيرات ورد. يحملق بسقف الباحة المعقود بالآجر، والممتد حتى سياج خشبي يستقيم بارتفاع متر، ترتكز عليه إطارات القبة الزجاجية. خلف قضبان السياج الحديدية في الزاوية المقابلة لمكمنه، رأى ذلك الطفل المذعور يرتجف في البرد جوار أخيه الصغير. كانا يطلان على هذه الباحة المكتظة بالنسوة النادبات، المحيطات في جلستهن الحزينة بتابوت مغطى. كان ثمة عراك في غرفة النوم المرئية من موضعهما. نافذتها المفتوحة على الباحة مسدلة الستارة. تزحزح يميناً محاولاً رؤية ما يجري، من دون جدوى، فالباب نصف الموارب حجب المشهد، فلم يرَ سوى أمه وهي تحاول الإمساك بجسد يحاول الإفلات. عاد إلى الحملقة الشاردة بنقوش الإيزار المتشابكة حول حروف آيات قرآنية احتشدت بحرفها الكوفي بين دوائر ومربعات النقوش المحيطة بحافات أجساد الحروف المتفحمة، مفكراً بالميت المخفي تحته، إذ لم يخبره أحد بمن يكون، فأمه تسللت مضطربة بعد أن همست لها جارتهم، فلحقها مع أخيه. وتسلقا السلم المفضي إلى السطح متفادين زحمة المدخل والباحة. وبغتة انفتحت الباب، وظهرت عمته بثوبٍ أسود شفاف. توقفت لهنيهة شاملةً حشد النسوة، اللواتي حبسن عويلهن، ثم خطت نحو التابوت خطواتٍ سكرى. هبطت نحوه راكعة على ركبتيها. سكنت في الصمت ماسكة بأصابعها طرف الإيزار وكأنها تخشى ما يكون تحته. كان يحصر نظره في كفيها اللتين كانتا تنتفضان تارة، وتتخشبان في تارة أخرى، ثم أزاحته من جهة التابوت الأوسع، فظهر وجه زوج عمته الوسيم المستدير مستغرقاً في غفوته. جمدت متكورةً فوقه، ثم ارتمت نحوه، وراحت تقّبلُ بصمتٍ الوجه المستكين. كان لا يستطيع رؤية ملامحها وهي تنحني معانقة المسجي في تجويف خشبته، فراح يتابع أصابعها البيض وهي تبحر في أنحائه، في مسارها المنحدر من الجبهة نحو الوجه والعنق والصدر والبطن والساقين. كان الحشد يضج تارة ويهمد، منتظراً خطوتها القادمة. العمة سارحة في نحت الجسد النائم. تحرز بأصابعها التفاصيل التي ستغيب إلى الأبد. عادت إلى الوجه. وحضنت بكفيها الرأس. رفعته كأمٍ ترفع طفلها المريض. وضمته إلى صدرها. شمته، وراحت تنوح مرددة:
ردتك..
ما ردت دنيه ولا مال
كان الحشد ينوح مع نواحها ويئن. جعلته يتكئ في تجويف خشبته. انتصبت متماسكة وخطت نحو غرفة النوم المفتوحة. لاحق خطوها الناحل فوقع بصره على سرير النوم مبعثر الأفرشة. اتجهت العيون نحوها وهي تجلس أمام مرآة الزينة. تناولت مقصاً وقصّت ضفيرتها الشقراء الطويلة. أرجحتها أمام المرآة. نهضت حاملةً الضفيرة على راحتيها المفتوحتين، وغادرت الغرفة. كانت أمي قد عدلت الإيزار ورتبته على التابوت. ارتكزت على ركبتها نصف قائمة جواره، ومدت الضفيرة على الإيزار. باعدت ذراعيها بوضع الصليب، ضمتهما إلى صدرها. تشنجت قبل أن تصرخ شاقةً ثوبها الأسود من الزيق حتى أسفل البطن. وانهالت لطماً على صدرها العاري. متمايلةً راحت تتطوى. تدور حول محورها بصمت وسط العويل والنواح، وكأنها تمارس طقساً بدائياً. لم يعرف وقتها لِمَ مات الرجل وأين وكيف؟. لم ينشغل في السؤال الخاطف سوى لحظة. كان مأسوراً بالمشهد المتجسد في الباحة. العمة شبه عارية تغرز أظافرها الحادة بالنهدين البيضاوين الصليبين، بالوجنتين الشاحبتين، بالعنق. تتطوح نافضة جذعها الأعلى يميناً وشمالاً. تَجَمَدَ عندما رفعتْ رأسها إلى الأعلى، ناظرةً إلى سماء ذلك اليوم الغائم، نضتْ عنها ثوبها الممزق، وصرخت صرخة واحدة مجلجلة غطت على نحيب وعويل النسوة الذي تخافت منبهراً، ليسمع ذلك السؤال الأبدي:
ـ ليش.. يا ربي.. ليش؟!.
وفي لب الصمت الخاطف. أزاحت الإزار ثانية، وسقطت فوق الغافي عارية، ممددةً على طوله. ظلت هكذا من دون حراك. فصرخ حشد النسوة المتلفعات بثياب الحداد صرخة واحدة جعلته يرتعد. ويعتنق أخاه المختض، لينفجرا باكيين. ومن غلالة الدمع رأى أمه تسحبها بمساعدة النسوة ليحملنها وهي فاقدة الوعي إلى غرفة النوم. والنسوة يعدن ترتب غطاء الميت واضعات الضفيرة الشقراء المتينة على الإيزار. لاحقاً سيعرف أن زوج عمته تاجر الحبوب والنشط في الحزب الوطني الديمقراطي العراقي قتل برصاص الحرس القومي صبيحة الثامن من شباط 1963، وهو في طريقه إلى محله الكائن وسط شارع علاوي الحنطة.
يندمج في خواء الباحة غائراً بجسده المتخشب، ينصت إلى الوجيب الخافت القادم من أحشائه.. من أحشاء الجدران، وكأن الوقع الرتيب قادم من سماوات بعيدة. تسربت رطوبة الآجر إلى عظامه، فغار في روح حيطان الباحة المتآكلة من أسفلها. الحيطان الحارزة لوعة العمة الجميلة، وأحزانها، وهي تكتوي بنيران الحرمان والوحدة، وتقاوم بضراوة سيل الخاطبين الذي لم ينقطع إلا بعد زواج ابنتها الوحيدة أكبر أولادها الثلاثة، وفقدان ابنها طالب كلية التربية الرياضية في ظروف غامضة العام 1978 ببغداد. قاومت بصمت حصار أخوتها الأربعة المرعوبين من فكرة ترملها وهي بنت التاسعة عشرة. وفي ليلة صيفية سمع أمه تقول لأبيه أكبر إخوانها:
ـ بليتوا المسكينة بلوة. عوفوها. حرام.. حرام.. ما تريد تتزوج!.
ـ أش لون.. بعدها شابة.. والناس رايحة جايه عليها.
ـ الغصب حرام بالإسلام. بعدين قالت أريد أدرس، وأربي أولادي.
سمع أباه يطلق زفرة ويلوذ بالصمت.
اندفنت بين هذه الجدران. الصمت ذاك الصمت القديم.. أدمنته في وحدتها الطويلة، التي تقضيها جالسةً في بحر النهار، جوار عتبة غرفة النوم المفتوحة تحت ناظريه المتوقفين على سريرها المرتب، المنزوي في طرف الغرفة البعيد. كان يمر بها غروب كل يوم، في طريق عودته من دكان عمه الحداد. يدخل من الباب الموارب. يجدها في الموقع نفسه. تحضنه بحنان. يجلس جوارها. تطعمه. وترجوه العودة إلى أهله قبل حلول الظلام:
ـ عمه.. روح من غير مطرود.. أمك تنتظرك على نار.
يرن في أنحائه صدى كلماتها القديمة، الفائحة مَحَنّة وسلاماً. يشم في خلوته الموحشة عبقها القديم المسكر، وهي تعتنقه في المدخل قبل أن يخطو عابراً العتبة إلى ضجيج الغروب. سريرها مرتب فارغ. أي لوعة فركت روحها طوال أكثر من عشرين عاماً، وهي تستعيد حرارة جسد الرجل الذي مرَّ مثل طيف. مايزال يتذكر عريها القديم، نضارة وسطوع بشرتها البيضاء، رقصها المذبوح في إيقاعه الشرس. كم تلظت تلك التضاريس الرشيقة في أتون الشهوات التي تموت بحدود السرير البارد. وأي ليالٍ مضنية تقلب فيها الجسد الناعم على جمر الرغبات المكبوتة.
ـ أي صبر هو صبرك يا عمة!.
وجد نفسه يصرخ محطماً جموده لصق الآجر المفتت، وهو يستعيد تباريحه المضنية، وافتقاده لسخونة ونبض الشريكة الحميم هذه الفترة الوجيزة، حتى إنه في ليلة غامر متسللاً إلى بيت أهلها القريب حيث تقيم منذ التحاقه بثوار الجبل، لكنه لم يجرأ على قرع الباب، بسبب ادعائها كونه مفقوداً في الجبهة.
عقب المناحة في بئر القبة الزجاجية، وعريها الصارخ وسط حشد الباحة احتشمت. عادت تخفي شعرها بشالٍ أبيض. وتلبس أثواباً تصل حد الكاحل، وتكثر من زيارة مراقد الأئمة في النجف وكربلاء. كان يراها في طفولته، حينما يبيت في دارها هارباً من كف أبيه القاسي، تستيقظ في أنصاف الليالي، وفي الأسحار ترتدي رداء الصلاة ناصع البياض، المغطي جسدها من أم رأسها حتى القدمين، مؤطراً الوجه المرتوي، النائر القسمات، ترتل آيات قرآنية من كتاب الله المفتوح بصوت خافت، حتى يؤذن لصلاة الفجر. يشجيه صوتها المتهدج، الشارع بالبكاء وهو يهبط ويرتفع مع إنسراح وشهقة مهابط الحروف وتموجها. يشجيه الصوت.. يشجنه باعثاً بجسده المخبوء تحت الغطاء القشعريرة. كم ود ساعتها لو يزحف نحوها، ليتكور في حضنها الدافئ ويغفو. كان يتمالك نفسه بعناء، ويخلد في شجنه يرمق بعينين حالمتين، يختلط فيهما النعاس ببقايا الأحلام جلال مشهد العمة المرتلة على ضوء الشموع، القائمة في شمعدان طويل العنق، ينتصب جوار سجادتها المفروشة في مساحة الجدار الفاصل بين الغرفتين. يختنق بالعبرة الحبيسة التي تنطلق ما أن تنهمك في السجود والقعود والقيام، فيضيع نشيجه الخافت في اختلاط أصوات المؤذنين المتداخلة، والمنطلقة من مكبرات أصوات المآذن الكثيرة المصوبة من قعر أرواح الناس نحو سماء الله. تظل في قيامها وقعودها وسجودها إلى أن يغسلها ضوء الفجر الفضي المعتم، المتسرب خلل زجاج قبة السقف، والذي سرعان ما يوشح الجسد المتوحد بوجده، حاسراً مساحة ضوء الشموع الناري.. حتى يسقط في نومٍ عميقٍ ما أن يراها تمسح وجهها براحتيها المفتوحتين محدقة نحو السماء بضراعة، وتطوي السجادة.
ظلت تجلس في ذلك الوضع نفسه، جوار عتبة غرفة نومها. تنتظر ابنها الذي سافر إلى بغداد ذات جمعة ولم يعد. اصطحبها مرة إلى العاصمة، دارا بين الأقسام الداخلية، غرف أصدقائه في الحيدرخانه، قاعات المحاضرات في التربية الرياضية، شوارع الرشيد، الجمهورية، السعدون. سألا إدارة الكلية، الأساتذة، ولم يستطع إخبارها بما أسر له أحد أصدقائه الذي همس له جانباً عن خطفهم له من باب الكلية.
أدمنت الحملقة الشاردة بالمدخل، وصمتها القديم ذاك اختلط بلوعة أمرّ من الأولى. عيناها معلقتان بأذيال ستارة الباب الخارجية. تتوقع دخوله كل مساء. وبرغم أنهم بعثوا بطلبها، ليخبروها بقتله ودفنه سراً. لم تكف عن الانتظار المفتوح.
في السنة الخامسة لانتظارها، وجدته يتسلل هو سراً إلى الدار في غبشة مساء مغبر. انتفضت من سكونها قائمةً. أخذته إلى صدرها، فشم عطرها القديم المسكر، المعطر سني طفولته الصعبة. راحت تتلمس جسده بأصابعها قطعةً قطعة وكأنها تريد الوثوق من حضوره الساخن، ناحبةً مرددةً:
ـ عمه.. أنت حي يا عمه.. أنت حي. قالوا أنت مفقود يا عمة.. يا بعد روحي يا عمة.
* فصل من رواية «الإرســــي» التي صدرت عن دار «الدار» في القاهرة العام 2008.