الإبداع في خلطة «كوستاريكا« الغجرية

Black Cat.. white Cat

عبد السادة جبار

امير كوستاريكا (50 عاماً) مخرج بوسني من مواليد سراييفو، قدرة سينمائية مذهلة ومفاجأة غير متوقعة في السينما العالمية، درس السينما في أكاديمية السينما ببراغ وعمل في التلفزيون اليوغسلافي ثم مدرساً في معهد الفنون، أول أفلامه المميزة كان فيلم « هل تذكر دوللي بيل ؟» والذي نال عنه جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينسيا العام 1981، وهو من المخرجين القلائل الذين حصلوا ثلاث مرات على السعفة الذهبية في مهرجان كان، مرة العام 1988 جائزة أفضل اخراج عن فيلمه (زمن الغجر)، ومرتين على جائزة أفضل فيلم عن فيلميه «حين ذهب والدي للعمل» 1985، وفيلم «اندركراوند» العام 1995، وفي العام 1993 حصل على جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي عن فيلمه (حلم أريزونا) وعلى الأسد الفضي كأفضل مخرج من مهرجان فينيسيا السينمائي عن فيلم (قطة سوداء، قط أبيض)، إضافة إلى ترشيحات كثيرة لجوائز أخرى، يعدّ كوستاريكا مجدداً للسينما العالمية، حيث صنع في أفلامه خلطة مثيرة وممتعة من واقعية وسوريالية، كوميديا ودراما اجتماعية، مبالغات لا تخرج عن اطارها الساخر والناقد المنتمي للواقع بإيقاع متلاحق ولغة غير مملة بالرغم من غرائبية السلوك، عشق الموسيقى وكوّن فرقة موسيقية ليقودها في جولات مبتعداً عن السينما، إلا انه عاد اليها من جديد ليقدم فيلمه « تحت الارض –اندركراوند « حيث قال:»أشعر إنني ملزم بفيلم يعالج موضوعاً يهزني من الأعماق، يجعلني أثور وينتزع مني الضحك والدموع في أوان واحد».

سينما كوستاريكا أنموذج متفرد في السينما الأوروبية على الرغم من انك تلمس شيئاً من ايقاع تلك الكوميديا السوداء المشحونة بالفانتازيا عند فليني او بازوليني وتجارب جودار، لكن كوستاريكا اقرب إلى الواقعية منه الى الرموز العميقة والتجريد السينمائي. أفلام كويستاريكا تنمو في حقل آخر مختلف عن السينما الأوروبية وتتسم بالعالمية على الرغم من استدعائه لتاريخ يوغسلافيا القريب لتمسك كوستاريكا بذلك التاريخ وحنينه المستمر له . فيلم « قطة سوداء.. قط أبيض «Black Cat.. white Cat» حاز على جائزة الأسد الذهبي كأفضل مخرج العام 1998، والفيلم يحوي موضوعاً خفيفاً إلا انه مفعم بكوميديا سوريالية أخلاقية عن حياة الغجر.

هيكل الحكاية

شيّد هيكل أحداث فيلم (قط أبيض .. قطة سوداء) على حكايات وقصص الغجر البسيطة المرتبطة بالحب والحرية بتفاصيل تلك الحياة اليومية المتغيرة، وقد يبدو أصل الحكاية مكرراً في جزء منها، إلا أن كوستاريكا اعتمد على تلك التفاصيل والمواقف والمفارقات التي تروى من خلالها الحكاية بحس فني عالٍ، حكاية شاب وأبيه وجده يعيشون في بيت بسيط، الشاب « زاري» مغرم بمتابعة الناس عن طريق المنظار عن بعد، والأب « دستانوي « مشغول بلعب الورق مع نفسه وبالرغم من انفعالاته لكي يبدو انه يخدع بسهولة حيث يحاول أن يدبر معيشته بطرق شتى، غير انه لاينجح في الكثير إذ يتعرض للغش حين يشتري غالونات الماء على أنها وقود كما يشتري غسالة إلا أنها تسقط منه في أعماق النهر مما يفقده ما يملك من المال، حيث يضطر للتورط في أعمال مع أشخاص مشبوهين، يخسر ما يملك ويصبح مديناً لشخص غجري ثري « دادان» ولايملك ما يسدد له دينه، والآخر بلا قلب يعيش بماله مرفهاً يعاقر المخدرات والخمر ويجمع حوله النساء، ثم يتورط بأخواته الثلاث اللواتي لايتقدم لزواجهن أحد بسبب سلوكه وعدم اكتمال انوثتهن، يستغل «دادان «الديون المتراكمة على ديستانوي ويعقد معه صفقة مقابل التخلي عن الديون وهي زواج ابنه « زاري « من إحدى أخوات دادان، إلا أن شقيقته تحب شخصاً رسمته في خيالها وزاري يحب فتاة أخرى، يحاول الجميع التملص من هذا الفرض، وهنا يفرض دادان الزواج بوجود عصابته وسيطرته المالية، وعلى الرغم من وفاة الجد في ذلك اليوم لايؤجل الزواج مما يضطر ديستانوي إلى وضع الجثة بين قوالب الثلج وتأجيل إعلان الوفاة فيما بعد، إلا أن العروس تهرب بمساعدة زاري وحبيبته، لتلتقي بشاب تتعلق به ويقبل الزواج منها وحيث لايستطيع دادان مواجهة والده؛ لأنه يعرف تفاصيل حياة دادان وأسراره لينته الأمر بموافقته على مضض لينته الفيلم بزفاف الأربعة وسفرهم على ظهر مركب.

المعالجة

جاءت معالجة تلك القصة البسيطة بقدرة عالية مشبعة بالحوادث الصغيرة والمفارقات التفصيلية يعجز عن تصويرها أي مخرج عادي حيث صور تلك المشاهد البصرية والتي تصاحبها الموسيقى الغجرية والمليئة بالألوان المصحوبة بإيقاعات صوت الطبيعية في مكوناتها، وذلك الإيقاع التصويري المتلاحق والحيوي، والكوادر التصويرية الممتلئة بالأشخاص وبمكونات الطبيعة وبالحيوانات الأليفة وتفاصيل البيوت والوجوه الخشنة والرقصات الغجرية الغريبة، صوّر كوستاريكا تلك العلاقات الجماعية والفردية بصدق مثير للاهتمام، وعندما نقول إن التصرفات وبعض المشاهد والمواقف التي بدت سوريالية وغريبة، لا نقصد إنها ابتعدت كثيراً عن الواقعية على العكس كانت دقيقة في التعبير عن المفارقة الكوميدية التي التصقت بالواقع المعاش وكانت شكلاً من أشكال الفعل الدرامي والشخصيات والأمكنة وما إلى ذلك من مكونات تبدو غير اعتيادية، إلا أنها قابلة للتصديق، ومايثير الاهتمام تلك الإدارة الذكية للمخرج في رسم الأدوار المتشعبة الصغيرة إضافة للأدوار الرئيسة والتي وزعها على عدد كبير من الممثلين ليؤدوها ببراعة بالغة وبكافة الأعمار، وقد نجح بقدرة عالية في تصوير الفيلم بلقطات متنوعة الأحجام وبكثافة عالية وبإيقاع متوازن من دون أن يشعر المشاهد بأي ملل أو فتور، وبرغم طابع الفيلم الكوميدي إلا أن الفيلم كان مفعماً بلحظات الألم ومشاهد معاناة الإنسان في واقع الصراع مع القوة وآلام الفشل، صوّر كوستاريكا جانباً مهماً من حياة الغجر بصدق وجمالية هادئة، وكأنه عاشها لزمن طويل وقد عبر عن ذلك متأثراً بتلك الحياة بالقول «إن مجتمع الغجر وإنسانيتهم يقدمان ما أنتظره من السينما، شيئاً أكبر من الحياة، كذلك الذي نشاهده في الأفلام الهوليودية القديمة، غير أن الاختلاف بينهما يكمن في أن ما أصوره هو الواقع في حد ذاته».

فيلم Black Cat.. white Cat، تمثيل : باجرام سيفردزان، سردان تودوروفيس، برانكا كاتيس، إخراج: امير كوستاريكا

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة