راغورام راجان*
مومباي ــ فيما يناضل العالم محاولاً تحقيق التعافي من الأزمة الاقتصادية العالمية، يبدو أن السياسات النقدية غير التقليدية التي تبنتها العديد من البلدان المتقدمة في أعقاب الأزمة اكتسبت قبولاً واسع النطاق. ولكن في هذه الاقتصادات، حيث ما تزال أعباء الديون المفرطة باقية، وحيث يغيب اليقين بشأن السياسات أو تعمل الحاجة إلى الإصلاح البنيوي على تقييد الطلب المحلي، يُطرَح سؤال مشروع حول ما إذا كانت الفوائد المحلية المترتبة على هذه السياسات تعوض عن تأثيرها غير المباشر المدمر على اقتصادات أخرى.
والأمر الأكثر إشكالية هنا هو أن تجاهل التأثيرات غير المباشرة قد يضع الاقتصاد العالمي على مسار خطير من التدابير النقدية غير التقليدية الانتقامية. ولضمان النمو الاقتصادي المستقر والمستدام، فيتعين على زعماء العالم أن يعيدوا النظر في القواعد الدولية التي تحكم اللعبة النقدية، مع تبني الاقتصادات المتقدمة والناشئة على حد سواء لسياسات نقدية أكثر فائدة لكل الأطراف.
لا شك أن السياسات غير التقليدية مثل التيسير الكمي تلعب دوراً مهما؛ فعندما تنهار الأسواق أو تختل بشكل صارخ، يتعين على البنوك المركزية أن تفكر بشكل مبدع. والواقع أن قدراً كبيراً من التدابير التي اتخذت على الفور بعد انهيار بنك الاستثمار الأميركي ليمان براذرز في عام 2008 كان صحيحاً تماما، برغم أن محافظي البنوك المركزية لم يكن لديهم دليل مشترك يسترشدون به.
ولكن المشكلات تنشأ عندما تمتد مثل هذه السياسات إلى ما هو أبعد من إصلاح الأسواق؛ فالفوائد المحلية تصبح غير واضحة في أفضل تقدير عندما يلحق بالاقتصادات ضرر شديد أو عندما تحتاج إلى إصلاح جدي، في حين تعمل التأثيرات غير المباشرة الناجمة عن هذه السياسات على تغذية تقلب العملة وأسعار الأصول في الاقتصاد المحلي والبلدان الناشئة.
وبزيادة التنسيق بين البنوك المركزية يصبح بوسعها أن تساهم بشكل كبير في ضمان قيام السياسة النقدية بوظيفتها في الداخل، من دون أن تخلف تأثيرات جانبية ضارة مفرطة في مكان آخر. وبطبيعة الحال، هذا لا يعني أن البنوك المركزية لابد أن تستضيف اجتماعات أو مكالمات جماعية لمناقشة استراتيجيات جمعية. فبدلاً من هذا، لابد من توسيع صلاحيات البنوك المركزية المؤثرة نظامياً بحيث تضع في الحسبان الآثار غير المباشرة، وهو ما من شأنه أن يرغم صناع السياسات على تجنب التدابير غير التقليدية التي قد تخلف تأثيرات ضارة كبيرة على اقتصادات أخرى، وخاصة إذا كانت الفوائد المحلية موضع شك.
لفترة طويلة، تقارب أهل الاقتصاد حول الرأي القائل بأن التنسيق قد لا يعود بفوائد كبيرة إذا عملت البنوك المركزية على تصميم السياسات بحيث تتفق تماماً مع الوضع المحلي. ولكن البنوك المركزية اليوم لا تنتهج بالضرورة سياسات مثالية ــ فهناك مجموعة من القيود المحلية التي تتضمن سياسات محلية مختلة، والتي قد تعجل بنشوء سياسات أكثر عدوانية من الـمُبَرَّر أو المفيد.
وعلاوة على ذلك فإن تدفقات رأس المال عبر الحدود، والتي تزيد من تعرض الاقتصادات للتأثيرات المترتبة على سياسات بعضها البعض بشكل أقوى كثيراً من الماضي، لا تسترشد دوماً بالظروف الاقتصادية في البلدان المتلقية. وتجازف البنوك المركزية، في محاولة للإبقاء على رأس المال بعيداً وسعر الصرف منخفضا، بأن تصبح حبيسة دائرة من التيسير التنافسي التي تهدف إلى تعظيم حصص بلدانها في الطلب العالمي الذي يتسم بالندرة حاليا.
مع استثناءات قليلة نادرة ولكنها جديرة بالذكر، لم يشكك المسؤولون في المؤسسات المتعددة الأطراف في هذه السياسات النقدية غير التقليدية، وكانوا متحمسين لها إلى حد كبير. وينطوي هذا النهج على خطرين جوهريين.
الأول يتلخص في انهيار قواعد اللعبة. ذلك أن إقرار السياسات النقدية غير التقليدية من دون مراجعة أو تردد يكاد يرقى إلى القول بأنه من المقبول تشويه أسعار الأصول إذا كانت هناك قيود محلية أخرى مفروضة على النمو.
وعلى المنوال نفسه، قد يصبح من المشروع بالنسبة للبلدان التي تمارس ما قد تطلق عليه وصف «التيسير الكمي الخارجي»، حيث تتدخل البنوك المركزية للإبقاء على أسعار صرفها منخفضة، في حين تعمل على تكديس احتياطيات ضخمة. وإذا لم تعمل التأثيرات غير المباشرة الصافية على تحديد سياسة مقبولة دوليا، فلن يكون بوسع المؤسسات المتعددة الأطراف أن تزعم أن التيسير الكمي الخارجي يخالف قواعد اللعبة، بصرف النظر عن مدى عدم الاستقرار الذي قد يتولد عنه.
الواقع أن هذا ليس مجرد افتراض ظني. ذلك أن التيسير الكمي والسياسات الشبيهة به تنفذ في المقام الأول في مواقف حيث تكون البنوك على استعداد للاحتفاظ بكميات هائلة من الاحتياطيات بلا تردد ــ عادة عندما تنسد قنوات الائتمان وتصبح المصادر الأخرى للطلب الحساس لسعر الفائدة ضعيفة. وفي مثل هذه الحالات «ينجح» التيسير الكمي في المقام الأول، إذا نجح على الإطلاق، من خلال تغيير أسعار الصرف وتحويل اتجاه الطلب بين البلدان. أي أنه بعبارة أخرى يختلف عن التيسير الكمي الخارجي في الدرجة وليس من حيث النوع.
ويتمثل الخطر الثاني في أن عدم رغبة بلدان المصدر في وضع التأثيرات غير المباشرة في حسبانها من شأنه أن يؤدي إلى أضرار جانبية غير مقصودة في البلدان المتلقية، فيحفزها بالتالي على اتخاذ تدابير تخدم مصلحتها الخاصة. وحتى برغم التواصل الشاق بين البنوك المركزية في بلدان المصدر بشأن الكيفية التي قد تعمل بها الظروف المحلية على توجيه مسار خروجها من السياسات النقدية، فإنها التزمت الصمت حول الكيفية التي قد تستجيب لها للاضطرابات الخارجية.
والاستنتاج الواضح ــ الذي تعززه الاضطرابات الأخيرة في الأسواق المالية والتي أعقبت تحرك أميركا نحو الخروج من أكثر من خمس سنوات من التيسير الكمي ــ هو أن البلدان المتلقية أصبحت مسؤولة عن نفسها. ونتيجة لهذا، أصبحت الاقتصادات الناشئة قلقة على نحو متزايد من تكبد عجز كبير، وتعطي أولوية أعلى للحفاظ على سعر صرف تنافسي وتكديس احتياطيات كبيرة للعمل كتأمين ضد الصدمات. ولكن في وقت حيث يُفتَقَد الطلب الكلي إلى حد مؤلم، فهل هذه هي الاستجابة التي تريد بلدان المصدر استحثاثها؟
على الرغم من الفوائد الواضحة لتوسيع صلاحيات البنوك المركزية بحيث تشمل التعامل مع التأثيرات غير المباشرة، فإن تنفيذ مثل هذا التغيير سوف يكون صعباً في وقت حيث تحظى المخاوف الاقتصادية المحلية بأهمية قصوى من الناحية السياسية. والحل الأكثر عملية، في الأقل في الوقت الحالي، يتلخص في إعادة البنوك المركزية في بلدان المصدر تفسيرها لصلاحياتها للنظر في التأثيرات المتوسطة الأجل المترتبة على الاستجابات للسياسية في البلدان المتلقية، مثل التدخل المستمر في أسعار الصرف.
وبالتالي تصبح البنوك المركزية قادرة على الاعتراف بالتداعيات السلبية صراحة ومحاولة الحد منها، من دون تجاوز صلاحياتها القائمة. ومن الممكن تكميل هذا النمط الأضعف من «التنسيق» بإعادة النظر في شبكات الأمان العالمية.
الواقع أن المخاطر الناجمة عن عدم النظام الحالي ليست مشكلة البلدان المتقدمة أو الاقتصادات الناشئة، والتهديد الذي يفرضه التيسير النقدي التنافسي يهم الجميع. ففي عالم يتسم بضعف الطلب الكلي، تنخرط البلدان في منافسة عقيمة للحصول على حصة أعظم من الطلب. وفي هذه العملية، تعمل هذه البلدان على خلق مخاطر في القطاع المالي وعبر الحدود، والتي تزداد وضوحاً مع خروج البلدان من السياسات غير التقليدية.
إن الخطوة الأولى لوصف الدواء الصحيح تتمثل في التعرف على سبب المرض. وعندما يتعلق الأمر بأسباب مرض الاقتصاد العالمي، فإن التيسير النقدي المفرط كان سبباً للمرض أكثر من كونه علاجاً له. وكلما سارعنا إلى الاعتراف بهذه الحقيقة أصبح التعافي الاقتصادي العالمي أكثر قوة واستدامة.
*محافظ بنك الاحتياطي الهندي. ويستند هذا المقال إلى خطاب ألقاه في معهد بروكينجز في الثاني عشر من إبريل/نيسان 2014.