بيلي كولينز كما اختاره وترجمه صانعا كتاب «يوم الوجود الوحيد»

السطر الأول علامة التحفيز الأولى لولادة القصيدة:

جمال كريم

يقدِّمُ الشاعران والمترجمان-غير الضؤويين-سهيل نجم ومحمد تركي النصارالشاعر الأميركي المعاصر (بيلي كولنز- 22مارس،1941) الموصوف بشعريته الحياتية اليومية السلسة»اللاذعة»، والمتربع على منصة الشهرة بين الأصوات الشعرية «النيويوركية»لسنوات عدة.
وتاتي أهمية الكتاب اللافتة كما قرأت واستقرأت من أنه من صناعة نجم والنصار بامتياز من حيث اختيار النصوص الشعرية المنتقاة من بين أهم أعمال الشاعر المطبوعة، والاكثرها تداولاً وقراءة وشهرة، او من حيث اختيار نص الحوار البالغ الأهمية الذي أجراه محرر مجلة باريس الأميركية جورج بلمتون خريف 2001 حول فن الشعر كما يفهمه،و يتذوقه، ويبدعه كولينز نفسه من حيث مبتنياته الجمالية ومحمولاته الأنسانية الضاربة عميقاً في مجريات الأحداث والطبيعة، وعموم معاني وجود الحياة .
إن هذا الأمتياز المكلل بصناعة الكتاب الذي تقاسم غلافه بيلي كولينز الأسم الى جانب فوتغرفياه الشخصية،الى أسفلهما عتبة العنوان المركزية «يوم الوجود الوحيد»وهو العنوان نفسه الذي تصدر احدى القصائد المترجمة بين الاثنتين وخمسين قصيدة التي انتقاها وترجمها الشاعران المترجمان سهيل نجم ومحمد تركي نصار من بين أهم اعمال كولينز ذات الشعرية البارعة.
الكتاب المنتقى بذكاء أدبي عالٍ،والمصنوع اختياراً وترجمة بجهد وإبداع لافتين،يضم بين طيات صفحاته الاثنتين والسبعين بعد المئة ، والصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع 2021 ، مستهل مقدمة إختزالية وقد تضمنت مقتطعات وانطباعات نقدية بالغة العمق والرؤية والنقدية البارعة لعدد من الكتاب والنقاد. فستيفن كوفج كاتب المقدمة نفسه يرى في كولنز المولود في نيويورك 1941 وبروفسور جامعتها الأبرز،وأسد أدب مكتبتها العامة للعام 1992،فضلاً عن تربعه على عرش شعرها من عام 2004 وحتى عام 2006، أنه «لم يسبق لشاعر ان حقق شهرة كولينز من قبل في عالم الشعر المعاصر:فتذاكر قراءاته الشعرية تباع بالكامل ومبيعات كتبه تصل الى حدود قل ان يحظى بها شاعر في اي مكان بالعالم، واختير لعامين متتاليين شاعر اميركا بين العوام 2001-2003…وكذلك شاعر نيويورك بين الأعوام 2044-2006»ص5.
لكن ستيفن من جهة أخرى يؤكد أن دواوين كولينز المطبوعة خلال عقد الثمانينيات لم تلق اي حضور أدبي لامع الا بعد صدور كتابه الرابع «اسئلة حول الملائكة» مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وصدر لكولينز الذي يصفه الناقد والشاعر مايكل دونافي:»بأنه مزيج من السهولة والذكاء»،وهو أيضاً»يتوفر على شعر عظيم مثير للمشاعر ويتضمن كوميديا سوداء «بحسب توصيف أل كيندي:»قصائد الفديو»،و»وجه بلا تعبير»،و»فن الغرق»1995،و»التفاحة التي أذهلت باريس»،و»الأبحار وحده حول الغرفة»،و»نزهة،برق»1998،و»خلع ثياب اميلي ديكسون»2000،و»تسعة خيول»2002،و»مشكلة الشعر»2005،و»البالستيات»2008،و»ابراج للموتى»2011،و»حب يائس»2013،و»مطر في البرتغال»2016.
وفي مراجعة ماري جو سولتر لديوان»تسعة خيول» علقت تقول في نيويوروك تايمز ان»اصالة كولينز كما يبدو تنبع من التزاوج بين الخيال السريالي المحلق وتفاصيل الحياة اليومية التي يتم التعبير عنها بكلمات قليلة عادية، معتبرة ان واحدا من عناصر الجذب في القصيدة الكولينزية انها تتيح لك تذكر حياتك الخاصة لبعض الوقت أكثر من القدرة على حفظها.
ويصف كولينز الذي يحيل ولادة القصيدة الى السطر الأول باعتباره علامة التحفيز الأولى، نفسه بأنه(قارئ واعٍ):»لدي قارئ واحد في ذهني،شخص يوجد معي في الغرفة،وانا أتحدث اليه،وأريد ان أتأكد بأنني لا أتحدث سريعا أو بطلاقة عالية، عادة ما أحاول أن اخلق نغمة أليفة في بداية القصيدة .الانتقال من العنوان الى الأبيات الأولى يشبه الصعود في قارب»ص8.
أتكهن، مثلما يستطيع أن يتكهن أي متلقٍ لكتاب «يوم الوجود الوحيد» الذي احتفى بأثنتين وخمسين قصيدة شعرية،ملحقة بنص الحوار المهم، ان الشاعرين،نجم والنصار، بتجربتهما وذائقتيهما المتغايرتين،وحسهما الشعري المفارق قد تقاسما مشتركين ومراجعين ترجمة القصائد ونص الحوار فجاءت النصوص المتقاسمة معبرة عن تلك الذائقتين والحسّين والجهدين لتقديم الشعرية «الكولينيزية» المتسمة،بحسب قراءات نقادّه، بقدرتها التحليقية العالية السريالية،وفخامة سلاستها في الحياتي المعيش ومؤثثات الايام ومرئياتها من الأحداث والأمكنة والبشر،وهنا لا أجد في ذلك غرواً تجاه شاعر أول ما ألهم فتوته الشاعرة مركب شراع يجري على صفحة ماء ربما لم تره عين أخرى، ولم يحسه احساس آخر، غير عين واحساس ذلك الفتى كولينز نفسه الذي أجاب محاوره بلمتون في معرض رده على سؤاله:متى بدأت الكتابة؟ فيجيبه:
-بدأت الكتابة مبكراً جداً.لدي ذكرى المرة الأولى التي الهمتني فيها الكتابة.كنت في الجزء الخلفي من سيارة والدي على طريق RDR في مدينة نييورك.كان عمري حوالي العاشرة .كنت في المقعد الخلفي ورأيت مركباً شراعياً على النهر الشرقي.أتذكر أنني طلبت من والدتي قلم رصاص،وكتبت شيئاً ما.لا أعرف ما الذي كتبته.لكنني اتذكر أنها المرة الأولى التي رايت فيها شيئاً ما وشعرت بنوع من المسؤولية لتسجيل بعض ردود الفعل تجاهه.كان أول عمل أدبي لي»ص 131.
وتبدو هذه الألهامية الحياتية الأولى لدى ذلك الفتى قد طبعت حسه الشعري بمؤثثات ومرئيات الحياة التي راحت فيما بعد تؤطر معظم لوحاته الشعرية التي تلونت بألوانها وأطياف اضوائها وظلالها،فضوء الصباح ،مثلاً،في قصيدة «يوم الوجود الوحيد»هو السطر الأول من مسرحية اليوم:
شمس الفجر شاحبة وظليلة
ومن مكاني وانا مضطجع في السرير أرى شبحاً
في الأعلى على هيأة نافذة،
روح مستطيلة طويلة
ترمقني في الفراش كأنها
على وشك أن تطالبني
بالأنتقام لمقتل والدي.
لكن ضوء الصباح هو السطر الأول فقط
من مسرحية اليوم
أعني اليوم الوحيد في الوجود
نغمة المفتتح للأغنية الطويلة….
ومثلما السطر الأول هو بمثابة الحمض النووي لدى كولينز، وهوعلامة التحفيز الأولى لولادة القصيدة، وهو الذي يقود الشاعر فيما بعد الى أجواء مشاهدها الحياتية وتفاصيل يوميات مرئياتها البصرية والحسية، كذلك هي الحياة بمفهومها الوجودي تبداً من سطر صباحها الاول.وكولينز الذي يعتقد أن « كتابة الشعر أشبه بإطفاء شموع عيد الميلاد»يفترض أنه مع بداية كل قصيدة يتوجب عليه إشغال اهتمام القارئ/المتلقي،لكنه في الوقت نفسه ينفي وجود اي سبب يجعل المتلقي مهتما به ككيان وجودي اجتماعي، ولا حتى بوجودعائلته، فيما يكمن وجوب كينونته تجاه قارئه مع طُعم الأغراء الذي تقدمه بداية القصيدة»يجب لأن يكون هناك إغراء في بداية القصيدة.اريد أن يكون القارئ جاهزاً في العربة.ثم ننطلق.بعد ذلك يمكننا الأنتقال مما بدا أنه بيئة مضيافة وودودةالى بيئة تكون مربكة أو خادعة أو غير متوازنة قليلاً.
أريد أن أبدأ من مكان مألوف وينتهي بي الأمر في مكان غريب.غالباً ما يكون المكان المالوف مكانياً كوميدياً،والمكان الغريب لا يمكن وصفه إلا بقراءة القصيدة مرة أخرى»ص 147-148.
وغالباً ما يشعر كولينز الذي يبدي اهتماماً خاصاً بمتلقيه وقرائه الذين يدعوهم الى جاهزية الانطلاق معه في عربته الشعرية أن»هناك وقتاً لأكون فيه واضحاً،ووقتاً لأكون غامضاً في القصيدة.غالباً ما تكون القصائد التي تفشل بالنسبة لي قصائد يكون فيها الشاعر غامضاً بشان شيء يجب أن يكون واضحاً،او يبسط شيئاً يجب تركه غامضاً،..غنها مسألة معرفة ماهي الأوراق التي يجب قلبها،وماهي الأوراق التي يجب أن تبقى مقلوبة»ص 148.
وبمثل خصوصية هذا الأهتمام يغري كولينز قارئه ببلع طعم بداية القصيدة ثم لينطلق معه على عربتها التي لا تقول غير الحياة،كما في نداء قصيدة»عزيزي القارئ»:
«بودلير يعدك أخاه
وفيلدنك يناديك كل بضعة مقاطع
كما لو انه يريد أن يتأكد بأنك لم تغلق الكتاب
والآن
أنا أدعوك مرة أخرى أيها الشبح اللطيف
والشخصية الصامتة الغامضة الذي يقف في مدخل هذه الكلمات
بوب يرحب بك في ضوء دراسته
خالعاً ملزمة جلدية لأوفيد لكي يرك إياها
تينسون يرفع قفل الحديقة المحصنة
ومع ييتس أنت تتكئ على شجرة كمثرى مكسورة
اليوم ملبد بغيوم واطئة.
وانت معي الآن
مكتوب في الحقل المفتوح لهذه الصفحة»ص 60.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة