لكِ من كلِّ سفحٍ نصيب

علي صلاح بلداوي*

1
أراعي فيكِ رقّة العنب
وأنتِ تمرّين بين المناقير التي تشتهيكِ
وأخاف فيكِ على أناقة الرُّمان
لأنَّ الذين حولك يغزلون العَبَثَ ويبيعونه.
كأنَّك الوردة التي تأخذُ بيد الماء
كي لا يضيع حين يجري بلا ساقيةٍ
وكأنَّهم الجِّيَفُ التي تنصب العِداء للعِطر، ولا تعطش.
أرجو لكِ السلالم لأنَّهم يعشقون القاع ويتشبَّثون بثوبكِ كي يُرهِبُوه
أرجو لكِ الهروب
لأنَّ هناك الكثير من المرايا التي ستدّلك على جمالكِ
الكثير من الشِّفاه التي ستحرثُ لك الطريق
وتقول مرحبًا
الكثير من الأكفِّ التي حينما ستصافح طراوَتكِ
ستُنسيكِ جسارةَ الشَّوك الذي كثيرًا ما وخزكِ
وترككِ تقطرين ألَمكِ وحيدة.
أُراعي حلاوة التِّين فيكِ
وأنسى كيف أننا نخوض في محيطٍ من الحنظل.

2
أشهدُ أنَّ طَيفَكِ مسّ وتر الربابةَ
فانتشى الراعي في ضياعهِ
ونسى القريةَ،
واهتدى قطيعهُ فجأةً إلى فرودسٍ مفقود.
أشهدُ أنَّ صوتكِ منقوعٌ بخمرٍ ينساب من عينٍ في الجنَّةِ
لهذا تسكر الأشجار والنَّهر والطيور المهاجرة
وفي دفاترها تنبت الحسنات مثل العشب
وتلاحقها الفضيلةُ مثل الأقدار.
أشهدُ أنَّ لكِ على كلِّ جبلٍ دعاءً يرفعه عاشقٌ في قُنوته
أو تحمله غمامة في رحيلها
وأشهد أن لكِ من كلِّ سفحٍ تهفوا إليه أرواح القديسينَ
نصيب.

3
هذه أنتِ إذن
موجةٌ ترمي بنفسها على ورقةٍ
تَطْلُعُ من الجِذع اليابسِ خَلف البلاج.
نسمةٌ لا تعرف كيف تلفت انتباه السنابل للنّار التي تقترب،
ونافذة لا يومض في داخلها فانوسٌ
ولا تَتَّقِدُ على جدرانها حكاية.
هذه أنتِ
حُزن يجيءُ أنيقًا بنجمةٍ تضيءُ ضفيرته
وثوبٌ حاكته أناملَ سيِّداتٍ تدوي ماكناتهنَّ
في الغرفة المجاورةِ للسَّديم،
لكنَّه الحزن،
يظلُّ يرمقه الجميع بذات النظرة،
مفضوحٌ، ويعرفونه.
أنتِ من أطلقوكِ على التَّضحيةِ لأنَّ قواميس أسمائهم قاصرة
أنتِ من أطلقوكِ على الخسارةِ لأنَّهم بلا قواميس
أنتِ قاموسهم كلّما اختلط عليهم الأمر
لهذا، على كل الأشياء،
هم يسمّونكِ.

4
في كتابِ الحقلِ المقدَّسِ، وردت سيرتُكِ محفوفةً بالسَّنابل، ومصحوبةً بدندنة الماء الجّاري بجانب الكوخ.
رُويَ عنها الكثيرُ من ثقات قريتنا الصغيرة
عن الدَّعاسيق
في رحلتها على رؤوس العجائز القادماتِ من بعيد
عن كلِّ شجرةٍ تَفَيَّأ بظلِّها غريبٌ ووشَمَ على جذعها ذكراه
عن الحجر الذي رفعَ من عمق البئر خيالَ الماء
فارتوت شفاهُ الياسمينةِ التي تكبرُ على مهلٍ في أعلاه
عن القصائدِ التي طلع فيها اسمُكِ غفلةً
فغزلت منها الطيورُ لحنًا لرفرفتها
عن الإشاعات التي كبرت على لسانِ كلِّ محبٍ
شعّت في ذاكرتهِ صورتكِ
عن كلِّ حبَّةِ قمحٍ قالوا أنَّ فيها روحٌ منكِ حتّى اقشعرَّت في هبائها
أنَّهم قالوا:
حُبُّكِ مبذورٌ في كلِّ قلبٍ مسَّهُ بردُ البيادر فجرًا
ومن أحبَّكِ فهو مأهولٌ بالاخضرار،
وناجٍ من يباسٍ محتمل.
في كتاب الحقلِ
وردت سيرتي كذلك
أجول البيادرَ،
ممسوسٌ بحبّكِ،
مأهولٌ بالرَّبيع،
وضّاجٌ بالماء.

5
صيّرني حُبكِ حكيمًا
كما يفعلُ الرَّعد مع السَّنابلِ
حين يروِّضها على الصَّمتِ
في ظلامِ الحُقول
وتَرَكَني بلا مَجرى
كأيِّ ماءٍ لم يجد ساقيةً
فظلّ يحكُ حَيرَته لأنَّ لا رأسَ له
حتى أغْرَتهُ الجهات
فتشتّت.

6
كنتُ النَّبتة التي
نَجَت من المزاج السيءِّ للعاصفة
والتي بلا خوفٍ
خَزَرت بعيونِها قساوةَ البرق
وظلّت تنتقي من عُمقِ الفيضانِ
حبّات الهواء الضَّئيلة.
كنتُ أيضًا
النَّبتة التي حينما سَمِعت صوتكِ البعيد
لحالها انكسرت.

7
بعدكِ يظلّ النَّهر يتلفّت
ويحنّ
حينما تأخذين بأذيالِ ثوبكِ الكشمير
بعضًا منه إلى البيت.

  • شاعر من العراق

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة