هناك العديد من الكتاب المعروفين بغزارة الإنتاج وكثرة التصنيف. وفيهم من تجاوزت آثاره المئة، أو اقتربت منها. وهي جميعاً من النوع الذي يستحق القراءة. وكان هؤلاء لا يعدمون الناشر الذي يتلقف هذه المؤلفات، ويتلهف على طبعها وتوزيعها. لأنه يجد فيها سلعة نافقة. أما النسخ المطبوعة فعددها كبير، لكنها لا تلبث أن تنفد خلال شهور قليلة. ليس هذا فحسب بل أنها تطبع مراراً وتكراراً، وتلقى الرواج نفسه. فمن يجيد تنظيم الوقت، ويحسن اختيار الموضوع، سيجد أن كثرة التأليف ليست خياراً سيئاً على أية حال.
في إحدى المرات وقع في يدي كتاب نشر في العراق أوائل السبعينات، بطباعة متواضعة وإخراج أشد تواضعاً، صدر بعشرة آلاف نسخة. وهو رقم خرافي بالنسبة لهذه الأيام. وشهدت تدافع الناس على اقتناء مجموعة (الريل وحمد) الشعرية لمظفر النواب في نفس الحقبة، وكان الباعة يضعون كمية غير يسيرة منه في (كوشر) وهو وعاء من (الخوص) يفترشون به الرصيف. ومع ذلك يعجزون عن تلبية الطلبات. أما محمد جواد الحلي فإن مجموعته الشعرية التي كتبها أثناء دراسته في كلية الطب، صدرت في منتصف الستينات بطبعة مترفة و 3000 نسخة بسعر 150 فلساً. وكانت اللافتات المكتوبة بالخط العريض تدعو الناس إلى الإسراع بشرائها قبل نفاد الكمية. وقد فقد الكتاب من المكتبات بعد مدة وجيزة، يوم كان عدد سكان العراق لا يتجاوز السبعة ملايين!
إن هذا القرن يبدو مظلماً إلى حد كبير بالنسبة للكتاب العراقي أو العربي، رغم تقدم تقنيات الورق والطباعة، وتضاعف عدد السكان. وربما يقع بعض (اللوم) على المواقع (العنكبوتية) التي تيسر قراءة الكتب على الهاتف النقال مجاناً. وإن كنت أستبعد أن يكون هذا هو السبب الوحيد. فلا أحد يضمن أن يبقى الكتاب (الألكتروني) متاحاً إلى مئات السنين، أو محتفظاً بوجوده إلى أمد طويل. ونظرة واحدة إلى الكتاب الأوربي وعدد ما يطبع منه، تفند هذه النظرية. فلم يحدث مثلاً أن طبع كتاب عربي بمئة ألف أو خمسين ألف نسخة وهي أرقام مألوفة في القارة العجوز. أما الكتاب العربي فإن نفاد (1000) نسخة منه دليل على أنه كتاب ناجح.
إنني أميل إلى القول أن الكتاب النافع، المتفرد بموضوعه ولغته وأغراضه، يمكن أن ينتشر ويبقى ويطبع مرات ومرات. وحينما قال محمد مندور ذات مرة أن «الثقافة عسر لا يسر»، لم يكن يعني صعوبات النشر أو الطبع أو التوزيع، بل الجهد المبذول في الكتابة والتأليف. فإنتاج ثقافة رصينة يحتاج إلى اطلاع دائم، وإعمال للعقل والفكر. ولم يكن يعلم رحمه الله أن القرن الجديد سيضيف أعباءً جديدة إلى هذه المعاناة.
ربما سيكون من أولويات الدولة في العقود القادمة أن تعين أهل الفكر على تجاوز محنة النشر والتوزيع، إذا ما أرادت أن تعيد تشكيل الشخصية الوطنية، التي تعرضت للكثير من التشويه والمصادرة والإيذاء في الماضي القريب.
محمد زكي ابراهيم