“سليل الخيال” رواية الواقع المر الذي يفوق الخيال استلابا

هيثم محسن الجاسم

صدرت رواية سليل الخيال للروائي ابراهيم سبتي عن دار الورشة للطباعة والنشر لعام 2020 بحوالي 162 صفحة ضمت أربعة عشر فصلا وسيرة حياة للكاتب. وهي حسب الترتيب لمؤلفات الكاتب الروائية المنشورة تحتل التسلسل الخامس وقد سبقها رواية نخلة الغريب 2003 ورواية جنة العتاد 2009 ورواية سفرجل 2017 ورواية قصر الثعلب 2019 .

رواية تتزاحم في صفحاتها مفردات سوداوية مثل (الهلع والخوف والوهن والفزع والوحشة والعنف والقلق والحزن والغربة والقهر والموت) لخلق جوا قاتما وخانقا تسبح فيه شخصيات بلا مستقبل يتربص بها القدر ليفترسها لا تقوى على الدفاع او حماية نفسها بأدواتها الانسانية في عالم شيطاني متنمر(ليلة قلق مفزعة ظلت تمعن فيّ خرابا).

تبدا احداث الرواية من الفصل الثاني؛ بعد شهر من انتهاء الحرب ” غزو الكويت” وتنطلق فلول الشعب الجائع الضائع المجهول غده بحصد ثمار الخسارات بجمع بقايا المخلفات الحربية المتروكة من الالمنيوم والنحاس للمقذوفات والعلب المعدنية بغية صهرها وبيعها كسكراب. “هذه حبكة اولى” ,يروي بها البطل الما زوم داخليا وخارجيا اسباب هلعه وخوفه وارتعاشه بشدة امام كل ظاهرة طارئة يتعرض لها ويحتار بردعها لضعف ادوات الحماية والصد لها مما تتركه ضحية المنولوجات الداخلية باجترار قاتل.

وفي الفصل الثالث تبدا “الحبكة الثانية” بأزمة البيت الكبير مصدر ازعاج وصداع للبطل وأسرته انطلاقا من محاولة أزلام حزب السلطة مصادرته أو عملية النصب والاحتيال عليه من قبل جاره أو أنشاء مستشفى بموقعه ويحتاج لسند ملكية كان مفقوداً .

وهكذا تتعاقب الفصول بالتناوب بأسلوب حداثوي جميل غير ممل وسلس ليتسنى للقارئ أو القارئة الابحار بسهولة وامان للوصول لشاطئ النهايات السعيدة كما في القصص الواقعية التقليدية . ولكن احترافية المؤلف أعطت للنص رونقا أخاذاً وجميلا بمحاولة مدهشة باصطياد القارئ وكشف نوعيته وسبر أغوار ثقافته بالقراءة النوعية الواعية .

لا يفصح الفصل الاول عن شيء, بل تركه سبتي كوعاء لجمع شفرات النص التي امتدت لثلاثة عشر فصلا ممتعا بحبكتين متبادلتين المواقع يروي فيها بطل واحد مهيمن على كل شيء يمر على القارئ وصفا وصراعا ونهايات بل يصف الشخوص الثانويين لنا ليخضعنا بتعقب خطواته وكلامه وأفكاره أي يشملنا بسطوته كما أراد له المؤلف .

الرواية تنتمي لأدب الحرب الذي يكتب بعدما تصمت المدافع وتختفي الطائرات وتجف دماء المعركة ليبدأ الضحايا التحدث عن المصائب والكوارث التي حلت بهم التي خلفتها نزوات الطغاة الباحثين عن المجد والعلو حتى لو على أكوام الجماجم وركام رماد الحرائق والشظايا.

  بتقنية ضميرانا المتكلم يروي بطل الرواية  معاناته من ارث بيت اختفت سندات ملكيته ولكي يثبت عائدتيه أمام الدولة للتعويض فرض عليه تقديم سندا اصليا ونتيجة ذلك مر بصراع داخلي وخارجي للدفاع عن حقه الشرعي .

 المؤلف ببراعته الابداعية حداثوية شطر المتن المحكي الى حبكتين متعاقبتين لنفس البطل اعطت قوة للنص المروي بواقعية تقليدية . حبكة احداث البيت التي سيطر عليها المنولوج الداخلي لوصف حالة الصراع النفسي للبطل الى جانب احداث اخرى خارجية خاض البطل بنفسه غمراتها مع اخرين لكسب لقمة العيش, بجمع نفايات وأنقاض المعارك من معادن ثمينة وخردة عجلات لبيعها لتجار السكراب وما واكبها من مخاطر الخوض بحقول الالغام التي تضمر الرعب والهلع والموت المحقق.

وتخلل الاحداث حكايات لحشو السرد لتحقيق غايات  زمكانية  لترصين النص وصيانته من الفجوات الزمنية التي يخلفها الحدث الرئيس (استهلكت الرحلة قصصا وحكايات بين الكذب والصدق وبين الجد والهزل لتمضية الوقت…).

الرواية تميزت بشخوصها الثانويين من الاشرار والمزورين والمحتالين والمجرمين السابقين والمراوغين والتافهين المعتاشين على الصدفة واللقطة الثمينة والسرقات والنصب والاحتيال, شخصيات يعج بها القاع المجتمعي. حتى البطل لم يتردد بالاستجابة لهم لتحقيق مصالحه الخاصة بغياب القانون وتشرذم الدولة بعد سقوط النظام الدكتاتوري .

في الفصل الحادي عشر انتقال زمني كبير من احداث التسعينات الغزو والانتفاضة الشعبانية الى 2003 سقوط النظام الدكتاتوري .لتأخذ الاحداث مسرى جديدا حيث ينهار كل شيء بسقوط الطاغية, وهروب واختفاء ازلام النظام وتفشي الفوضى بحل الدولة العراقية مما شجع على ممارسة التزوير للوثائق الرسمية وتفشي الجريمة حد امتهنها من قبل اصحاب السوابق.

في الفصل الثاني عشر تنتهي الحبكة الاولى بعملية البحث عن  المفقود سالم وطاهر وفؤاد الذين فقدوا في الصحراء .(احيانا تأتي طائرة …تهبط هنا….وصعد فيها شباب كثيرون).

اما في الفصل الرابع عشر تنتهي الحبكة الثانية ويعثر على صندوق الجد الذي يحتوي على سند الملكية واوراق اخرى ( كاد قلبي ان يتوقف هو عثوري على سند بيتنا ولكن الصدمة …..عندما رأيت سند البيت الذي يسكن فيه الحاج رشيد…ملكنا). وهكذا تفك شفرات الفصل الاول ( اتركوني انقذ صندوق جدي ….. احترق الصندوق عن اخره كما خيل لي ….لم ار الصندوق يحترق).( الغريب ان جدي غير متأسف على اغراضه الثمينة ولا عن سند الملكية الذي احترق….).

لا أؤكد اني جست اغوار القاص والروائي ابراهيم سبتي بقراءة رواية او مجموعة قصصية كانتا الاحدث صدورا له , ولكن اعتقد ان إمكانياته كبيرة ليتقفاها النقاد المحترفين لتشخيص حالة التطور الكبير في السرد العراقي المعاصر الذي يشكل سبتي كسارد متنوع ومبدع احد اركانه.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة