علوان السلمان
القصة القصيرة: هي فن الحذف، والخيال الممزوج بالواقع…شكل من اشكال الحداثة بمجاراة العصر وتطوراته ومتغيراته الحضارية. انها حيز ابداعي ينمو في زمكانية كامنة في عمق الحدث، ومغامرة فكرية لاكتشاف اسرار الواقع بتشكيلاته و(معالجة الحياة التي تبقى سرا)على حد تعبير فرانك اوكونور.
وبتأمل العالم السردي للمجموعة القصصية(وجعخانة) التي نسجت عوالمها انامل القاص حسين البعقوبي.. واسهمت دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/2021..كونها نصوصا خاضعة للتحبيك السردي من خلال التركيز على الحدث والتعاطي مع المؤثرات الزمكانية المحددة بنسقية الافعال والشخوص..مع ابتعاد عن الوصفية المشهدية الاستطرادية واعتماد التصوير التشخيصي، الاستعاري والمجازي المؤنسن للجمادات لخلق نص موح محرك لذاكرة المستهلك(المتلقي) لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية…ابتداء من الايقونة العنوانية والعتبة المركزية المكثفة الصورة والدلالة الموجزة عبر فونيميها المتعانقين(وجعخانة)= وجع + خانه=مكان الالم.
(كمن يسقط في الماء وهو لا يجيد السباحة وجدت في الجريدة القديمة التي احملها طوق نجاة مزيف ..كي اشغل نفسي بقراءتها وامنع عني الغرق في هذا الاحراج الذي بدأ يشد خناقه من حولي جراء تجاهل الراهب لي..بعد كل العناء والجهد الذي بذلته من اجل العثور عليه..بينما اهله واقرب المقربين اليه..سخروا مني حين سألتهم عنه معلنا رغبتي بايجاده مهما كلفني الامر..ولعل اكثر ما آلمني هو ان اعود الى مدينتي خالي الوفاض..ونظرات الاصدقاء الساخرة تحيط بي وتذل كبريائي وهي تقول بغير كلمات(ألم نقل لك انه قد جن ولن تحصد من لقائه نتيجة تذكر..فكأنك تقرأ في كتاب بغير سطور) /ص11ـ ص12…
فالنص يتميز بعمقه الدلالي..وتماسكه البنائي ولغته الرامزة ذات الطابع الايحائي ليكشف عن تجربة مكتنزة بفكرتها الانسانية والواقعية المكتظة بثنائياتها المتضادة (وجود/عدم (و(حضور/غياب) و(ذات / موضوع).. بتناوب سردي بين الراوي العليم الذي ينتقل من لغة السرد الذاتي الى لغة الحوار الموضوعي..مما اضفى على السرد سمة التأثير والجذب.. بتوظيف تقنية الوصف المركز التي اسهمت في ابطاء سرعة السرد..اضافة الى توظيف لغة مشحونة ومحملة بالدلالات الفكرية والاجتماعية والمعرفية، وعبارات موجزة، مبنية على تقنيات اسلوبية.. كالتقابل والتكرار لتحقيق الجماليات الفنية والفكرية، مع تكثيف اللحظة الشعورية المؤطرة لوحدة النص الموضوعية..
(اشاح بنظره قليلا بعد ان عاود الجلوس مسندا ظهره بالكامل الى مسند الكرسي ودفع رأسه الى الوراء قليلا كما لو انه يبحث عن الفكرة في سقف الغرافة أو ربما هو استطاع ان يزيل ذلك السقف بمخيلته ليطل من عل على عوالم من الماضي القريب يستقي منها قصته..فكرت في تلك اللحظة ان تلك القصة التي سيسردها ان كانت مناسبة فسأدخل بعض الملاحظات على السيناريو ليفيد منها مخرج الفلم ويصور تلك اللقطة بطريقة الفلاش باك..وبأسلوب حديث فيظهر بطل القصة وهو يزيل ذلك السقف بمخيلته ثم يرتفع عاليا ليطل على ما حدث في السابق بعين الطائر وفي الوقت ذاته يكون بطل القصة احد المتواجدين على ارض الواقع..كنت في سبيلي للتواصل اكثر مع اخيلتي تلك. لكنه عاود الحديث، فوجدتني مضطرا الى ترك تلك الاخيلة والعودة ثانية لاتخاذ دور المصغي..) /ص62 ـ ص63
فالقاص يقدم انموذجه الانساني باعتماد الجمل المكثفة التي تصور عالما متسعا بدلالاته..مكتظ بمشاعره..عبر رؤية محددة بمنطق جمالي من خلال المشهد والارتقاء به بتوظيف تقانات فنية واسلوبية كتقانة الاستباق والاسترجاع والتذكر. وهو يعتمد رؤيتين سرديتين: اولهما الرؤية الاجتماعية وما اصاب المجتمع من تهجير وبلاء طائفي. وثانيهما: الرؤية الانسانية بلغة تميل الى الايقاعية المتتابعة، المعبأة بشحنات مكتنزة الدلالة. اضافة الى تخطي المنتج (القاص)الى وصف الانفعالات والكشف عن المسكوت عنه عبر السيميو لوجيا (علم العلامات او الاشارات او الدوال اللغوية او الرمزية) لتغطية الجوانب المؤطرة للحدث بوساطة اختزال العبارة والتعامل مع الاشارة الجمالية..
(في لحظة ما.. اتسع الأفق أمامه وأطلت هي بقامتها الممشوقة وبوجهها الخمري أمام ناظريه وكأنها صورة سينمائية تعرض أمامه على شاشة كبيرة بألوان براقة..بدقة عالية..ومهما اتسعت خطواته المنطلقة الى الامام كانت تلك الشاشة تبتعد عنه بمسافة مناسبة كي تظل في ذات الوضوح والحضور نصب عينيه فيراها حاضرة امامه ومتجددة باستمرار..) /ص76 ـ ص77
فالنص يتسم بالخصوبة والتركيب الموضوعي والوحدة العضوية والالفاظ الموحية مع اقتصاد في اللغة، وطغيان التشخيص وانسنة الطبيعة، مع اختزال على صعيد الفكرة التي تعلن عن تركيز ذهني وحوار ذاتي وبعد رمزي وجمالية اللغة الشفيفة. وبذلك قدم القاص نصا يتسم بحبكة تؤكد على ابراز تكالب النظام الاجتماعي المنافي للطبيعة وقوانينها..مع هيمنة الذات على الخطاب السردي الموشى بالمعاناة ومحاولة الافلات من سلطة الواقع المأزوم مع تتابع فعلي وحضور مكثف للذاكرة النابضة لمواجهته..وهو يتسم بصيغة مألوفة على مستويين: اولهما المتن الحكائي في مادته الاولية(حدث واقعي) وثانيهما المبنى الحكائي في صيغة فنية وجمالية..فضلا عن توظيف ضمير المتكلم(الانا) الذي يكشف عن ان السارد يحكي بضمير الراوي العليم.