تماسك البنية النصية في «امرأة من جنوب القلب»

يوسف عبود جويعد

في المجموعة الشعرية (امرأة من جنوب القلب) للشاعر جابر السوداني، نقف مع عملية بناء القصيدة الشعرية بتفاصيلها، شكلها، مضمونها، ثيمتها، موضوعها، سياقها، الرؤية الفنية التي اتبعها الشاعر في عملية صناعة القصيدة الشعرية، المفردة الشعرية الانزياحية المنتقاة التي تتلاءم وتنسجم مع الإطار المتوحد في القصيدة، امتلاك الحسية الشعرية التي تجعل القصيدة تنتمي إلى عالم الشعر، وتبتعد عن اللغة الاعتيادية، الصور والدلالات الرمزية والاستعارات الصورية التي أتت عن عمق معرفة الشاعر لعملية بناء القصيدة والتصاقه بعالم الشعر، ثم ننتقل في عملية التحليل في تلك النصوص الشعرية إلى العناصر والأدوات التي وظفت للقصيدة الشعرية، وتفاعلت مع النص وصارت جزءاً مهماً منه، وهي مجموعة تراكيب تفاعلية تماهت وانصهرت وتوحدت مع العناصر الأساسية لتكون مساراً خاصاً للشاعر، الإحساس بالغربة وهو في وطنه، حالة الوعي واكتشاف الجهل، العلاقة العاطفية، المرأة في كيانها وصفاتها، وبأشكال شعرية متنوعة، البحث عن الضوء داخل الظلام، الوعي وسط اللاوعي، نبذ أي ظاهرة شاذة ومتخلفة لا تنتمي إلى الحياة القويمة، الحرب، البحث عن الطمأنينة والسلام والحب والأمان، وسط الحروب، البحث عن الجمال من داخل القبح، إظهار الجانب المشرق للحياة من داخل الظلام، مقت المتفيقهين وأدعياء الثقافة وأدعياء الشعر، والأدباء الذين لا يمتلكون المعرفة والدراية ويميلون إلى الجهل والاستعراض الفاشل، وهذه التفاعلات وغيرها هي عملية تجاذب وخلط داخل النص الشعري، لكي يظهر بصورة متوحدة تستوعب كل هذه الأدوات، ويكون للشعر مذاق آخر فيه الروح الانفعالية، والروح الاستفزازية من أجل التحفيز نحو التغيير، فيه السخرية من التقاليد البالية، فالمفردة الشعرية داخل النص، تقوم بأكثر من دور من أجل إيصال الثيمة والفكرة والموضوع للقارئ، ولكنه لا يحسها ظاهرة، وإنما هي مضمرة تسير مع مسار النص، وتصل دون استئذان، كما أود الإشارة هنا إلى أن المرأة حظيت بحظ أوفر في هذه المجموعة، ولها أكثر من قصيدة، وهذا يدل على اهتمام الشاعر بالنصف الآخر، لما لها من أهمية في حياتنا.
وهكذا فإننا نكتشف أن عملية بناء النص الشعري، تتطلب وعياً كبيراً، وقدرات تمسك بتلابيب مجموعة التفاعلات وتزجها في النص الشعري، لتنتقل إلى عالم الشعر، ومنها يتكون التشكيل والتكوين للقصيدة الشعرية.. ومن الجدير بالذكر أن الشاعر جابر السوداني ابتعد عن الاستهلالات والعتبات النصية الموازية والإهداءات التي طالما وجدناها تعيق طريقنا نحو النصوص الشعرية، حيث نلج إلى القصائد التي ضمتها هذه المجموعة دون أي عائق، وفي قصيدة (امرأة من جنوب القلب) التي حملت المجموعة اسمها، نكون مع انثيالات عاطفية، وبوح مفتوح، يخرج من أعماق الوجدان لامرأة من جنوب البلد، من الأرياف، والطين الحر، والنخيل، والبساتين، ورائحة الأرض، لتسكن قلب الشاعر، وتسلب لبه، لتكون امرأة من جنوب القلب:
مطرٌ على الشرفاتِ وجهُكِ
جاءتْ بهِ ريحُ المساءْ.
من يا ترى يهواكِ مثلي
ويجيء يطرق بابكِ الموصود
في ليل الشتاءْ
قمرٌ على الشرفاتِ أنتِ
موعودةٌ بهواكِ أعوامي الأخيرة.
حلمٌ يغازلُ صبوتي.
وتصدني عنكِ انثيالات المساءْ.
الدفء ملءُ أصابعي
ويداي تسكن في يديكِ
فيك رائحةُ الجنوبْ.
وفي قصيدة (الغائب) يقدم لنا الشاعر رؤية فنية عن الغياب، ومحاولة إبعاد الوجدان من حاضر مؤلم، والركون إلى الغياب هرباً:
منذ قرون
أوصد بابَ السردابِ
عليهِ ونامَ عميقاً
لمْ توقظهُ الحربُ
وأحزمةُ النسف
وأمراض العصرِ
وصيحاتُ
جنود المارينزِ مساءً
يقتحمون منازلَ غربتنا
وفي قصيدة (ثلاثة يركضون) يقدم لنا الشاعر ثلاثية الركض نحو النهاية، النهر، العمر، الأب، وكل يسير مهرولاً نحو مبتغاه ونهايته التي سوف يصل إليها:
مذْ رأيت النهرَ
وهو يركضُ عائداً للجنوب.
لا شيء يثني
مسيرة الموج المسافرِ
نحو قرارة البحرِ السحيقْ.
مذْ رأيت العمرَ
وهو يركض عائداً للترابْ.
لا شيء يثني
تعاقب الفصولِ والسنينْ.
مذْ رأيت أبي وهو يركضُ
متعقباً ظل الرغيفِ
وكسوة العيدِ للصبيةِ العراةْ.
وما جعل ظهرهُ الفتي
محنياً مثل عرجون قديم.
وفي قصيدة (فرض) يبعد الحبيبة عن الأسئلة التقليدية، ويمنحها حرية الانطلاق، نحو واحة الحب الجميلة دون تردد أو خوف.
لا تسأليني
حين التقيكِ
مرةً أُخرى لماذا أحبكِ
ليس في الحبِ
متسعٌ
لطرح الأسئلةْ.
غادري مخاوفكِ
التي كرهتها
من زمانْ
وهاتي يديكِ
عروسةً مدللة.
نلاحظ في بناء النص الشعري للشاعر جابر السوداني، أنها بنية متراصة متماسكة متصلة ببعضها دون فراغ أو حتى تقطيع، ولا يمكن أن يُستجزأ مقطع منها دون الإخلال بعملية البناء، كونها تفقد قطعة مهمة من تلك القطع المتراكبة المتصلة دون انقطاع، وفي قصيدة (مشهد صار مألوفاً) يقدم لنا رؤية لواقع حال الثقافة والأدب، وبعض من مدعي الأدب والشعر والصحافة، الذين يستعرضون جهلهم أمام الواهمين ويصفهم بأنهم، مثل أسراب ذباب:
كلُ شيء هنا
يعتريهِ الضجرُ
الكراسي المهملةُ
وعناوينُ الكتبِ التي
تراكم عليها الغبارُ
منذُ عقدين أو يزيدْ.
الصحفيونَ المصابونَ
بنوبات السعال والسعار معاً
وشعراءُ الحداثةِ الواهمون.
يطنون مثل أسرابِ ذبابِ.
وفي قصيدة (متلازمةٌ للحزن) نعيش حالة الغياب والوحشة، وأشرعة المسافرين، وتداعيات حسية شعرية غاية في التماهي في بحور النفس الحزينة:
أشجاني الغيابُ
وأشرعة المراكب المسافرةْ.
إلى أينَ تمضي هذه الحُمُولْ.؟
ذاهبةً يلفها الضبابُ والمطرُ.
وتنساني دائماً خطى الراحلينْ.
كسقط متاع
في وحشة المرافئ الباردةُ.
أنا سليل العثرات الجسامْ.
ماتتْ بروحي
قبلَ أوان القطافِ طفولتي
وغادرت ملمسي
طراوة الشعرِ والشجنْ.
يا لتلكَ المساءاتِ
تلاشى كلُّ شيء
وفي واقعة حقيقية حدثت للشاعر، حيث صدر عليه في زمن السلطة الصدامية، حكم بالإعدام شنقاً حتى الموت، وقيد إلى حبل المشنقة يعثر بخطاه الخائفة، فأنقذ في اللحظات الحرجة الأخيرة من حبل المشنقة، وهكذا كتب قصيدته (الطريق للمشنقة)، فجاءت مفعمة بالأحاسيس الصادقة ملتهبة تحبس الأنفاس.
من هنا مرتْ خطانا
ذاتَ صبح مثقلينَ
بألف جرح في الصميمْ.
كانتْ الشمسُ
على أحداقنا جمراً تفورُ
وألفُ فوَّهة تواكبُ سيرنا
نحو المشانق
في الطريقِ تعثرتْ خطوي
بأقدامي وباعتني الجنودْ.
بالهراوات الثقيلةِ وانكسرتُ
تناثرت أشلاء وجهي في الترابِ
كأن َّعمري من زجاج خزفي ّأثخنوه
بالسكاكين المدببة النصالِ
تسمرت عيناي في الأفق الكئيبِ
وفي قصيدة (وقفة مع علي بن أبي طالب) نكون مع المناجاة والتداعيات التي تقدم واقع الحال:
ويلاه عليٌ
ولأنك محضُ جراح فينا
موغلة حدّ النَّزفِ
نقيم لها الصلوات حِداداً
هل ستجيئ الليلةَ من عليينْ.
نلوذُ بظلكَ يا ظل الله
سئمنا البعثَ كثيراً.
ومواعظ أمناء الأمة
والتَّجوال على أرصفةِ المنفى
نستجدي عطفَ وكالات الغوثِ
جياعاً لا منَ ولا سلوى.
وهكذا وبعد طوافنا لبعض من قصائد هذه المجموعة التي ضمت العديد حيث بلغت عدد القصائد مائة وثماني قصيدة، اختلفت في رؤاها ومبناها وأفكارها، وبلغة شعرية نابعة من أصول صناعة القصيدة الشعرية بكل أدواتها وعناصرها وعملية بنائها، كما نلاحظ أن عملية تدوين القصيدة متصلة متراصة مع بعضها كجسد واحد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة