من ثمرات سياحتنا الشعرية

حسين الصدر

-1-
للسياحة الشعرية نكهة خاصة ، وطعم متميز، لا يكاد يحس به الاّ خاصة المتذوقين للشعر العربي …
وللشعراء طرائقهم الفريدة في التعبير عما يحبون وعما يكرهون ..،
وهم لا يقتصرون على السواد والبياض من الألوان – كمعظم الناس ، بل يخلطون الألوان خلطة فريدة تكون محصلتها النهائية مُلفتةً للأنظار ..
فالشاعر قاسم الواسطي ( ت 626 هـ ) يتحدث عن صديقٍ له مبتلى بالبخل بحيث لا يفتح يده الاّ للأخذ …
حيث لا عطاء يقول فيه :
لنا صديق فيه انقباضٌ
ونحنُ بالبسطِ نستلذُّ
لا يعرفُ الفتحَ مِنْ يديهِ
الاّ اذا ما أتاه أَخْذُ
فَكفّه ( أينَ ) حين تُعطى
شيئاً وبَعْدَ العطاء ” مُنذُ “
والغريب انه لم يقل لنا لماذا اختار البخيل صديقاً، فالمعروف عن البخلاء انهم منبوذون مهجورون ؟!
-2-
ويصف ( ابن الطوابيقي) المتوفى سنة 599 هـ بيته فيقول :
ليَ بيتٌ تموتُ فيه السنانيرُ
هزالاً والفأرُ في الأسرابِ
أنا فيه فوق التراب وخيرٌ
ليَ منه لو كنتُ تحتَ الترابِ
انه يتمنى الموت فراراً من بيته المُميت للفئران ..!!
ولنقارن الآن بين ( ابن الطوابيقي) وبين الشاعر الكبير السيد أحمد الصافي النجفي الذي عاش في بيت ( لا يجد غضاضة ولا خوفاً من أن يجاور أفعى كانت تسكن سقف غرفتِهِ لمدة سنتين ، دون أنْ تمسه بأذى أو تعضه بناب ، بينما لا يمر يومٌ دون ان تمس الشاعر لدغة من بني جنسهحسب ما قال صاحب السفر الثمين عنه الدكتور ابراهيم العاتي
-حفظه الله- الذي كرّسه للحديث عن حياته وابداعاته ، واستعرض فيه الكثير من الشواهد على معانيه المتكبرة وصورِهِ الغريبة والموسوم بـ ( غربة الروح ووهج الابداع )
راجع ص 52
واقرأ ما قال الصافي عن ذلك البيت :
جاورتُ أفعى في السقف ساكنةً
تُطربُ لي بالفحيح أسماعي
وإنْ تلوتُ القريضَ تُنْصتُ لي
كأنّها أطربتْ لأسجاعي
قالوا : تحذّرْ فالسمُّ في فمها
فقلتُ : سمّي منكمْ وأوجاعي
للمكر تعْزُونها ولست أرى
منكُمْ سوى ماكرٍ وخدّاعِ
غربة الروح ووهج الابداع ص 52
أرأيتَ كيف اتخذ ( الصافي ) من الأفعى صديقاً يُصغي الى فحيحه فيطرب؟!
ويقرأ لها شعره فتنصت كأنّها في حالة طرب ..!!؟
كانوا حذروه من سمّها ولكنه لم يكن يخشى الاّ سُمَّ الأوغاد من ذوي المكر والخداع ممن فضّل عليهم تلك الأفعى ..!!
ان الصافي النجفي يملك القدرة على التكيف طبقاً لما تمليه الظروف دونما شكوى وتوجع، وهكذا نراه يحوّل الفحيح الى أنغام .
والسموم الى أنسام ..!!
وهو بهذا يثبت أنه الشاعر الساحر الساخر الذي لم نعرف له نظيراً .
-3 –
أما النقاش البغدادي عيسى بن هبة الله المتوفى سنة 544 هـ
فيقول :
اذا وَجَد الشيخُ في نفسِهِ
نشاطاً فذلك موتٌ خَفِي
ألستَ ترى أنَّ ضوءَ السراجِ
له لَهَبٌ قبل انْ ينطفي
وهو ينتقل من ظاهرة اللهب الذي يظهر من السراج قبل انطفائه الى النشاط الذي يُبديه الشيخ ، وهكذا يحكم عليه بالانطفاء والانتهاء ..!!
-4-
أما عوف بن محلم فيقول :
وكنتُ اذا صحبتُ رجالَ قومٍ
صبحتُهمُ ونيّتيَ الوفاءُ

فأُحسنُ حين يُحسنُ محسنوهُمْ
واجتنبُ الاساءةَ إنْ أساؤا
وهكذا تغرز القوافي في الاذهان روائع القيم، وفي طليعتها الوفاء للأصدقاء الذي لا محيص عنه بحال ، والعزم على اجتناب الاساءة اليهم حتى في حال الاساءة ..
والتغني بالاخلاق ومكارمها لا يستغني عنه جيل من الأجيال …
-5-
وقال ابن الوردي :
سبحان مَنْ سخرّلي حاسدي
يُحدثُ لي في غيبتي ذِكْرا
لا أكرهُ الغِيبةَ مِنْ حاسدٍ
يفيدني الشهرةَ والأجرا
وخلافا لما يضمر الناس للحسّاد من المشاعر السلبية، لا يضمر (ابن الوردي) لحسّاده شراً، ذلك أنَّ الحاسد يذكره في غيبته فينشر ذكره ويشتهر بين الناس على رغم انف الحاسد
ولابن الوردي في شعره غرائب :
قال ناقداً أحبابه الذين آذوه :
أنتم أحبائي وقد
فعلتُمُ فِعْلَ العِدا
حتى ترتكم ( خَبَري )
في العالمين ( مُبتدا )
والبيتان لا يخلوان من طرافة
-6-
واخيراً :
اسمع ما قاله رشيد الدين الفهري ( ت 638 هـ) وهو يشكو من حالة النسيان التي لازمته :
أفرطَ بي النسيانُ في غايةٍ
لم يترك النسيانُ لي حِسا
وكنتُ مهما عرضتْ حاجة
مهمة اودعتُها الطِرسا
فصرتُ أنسى الطرس في راحتي
وصرتُ انسى انّني أنسى
وهو تصوير جميل لما آل اليه حاله ..
اعوذ بالله من النسيان ومن شرور بني الانسان .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة