القسم الأول
حاورها : كه يلان محمد:
قراءة التاريخ هي عملية مستمرة ويتطلبُ البحثُ في مجال تاريخ الحضارات ونشوء المعتقدات الأسطورية التدجج بمفاهيم علمية حديثة ومواكبة الفتوحات العلمية والحفريات في الطبقات التاريخية السحيقة ومايعطي مزيداً من الأهمية لهذه الاشتغالات المعرفية في الحقل التاريخي والحضاري هو اكتشاف المناخ الذي انتظم في ظله شكلُ التجمعات البشرية وأثر ذلك على رؤية الإنسان للوجود وإشكالية الخليقة هذا إضافة إلى ماتوفره تلك الدراسات من إمكانيات التأويل وإعادة النظر بشأن ماشهدتهُ الحضاراتُ من التحولات على صعيد هندسة الهيمنة والصراع على السلطة سواء أكانت مادية أو رمزية وتكمنُ القيمة الكبيرة لهذا المسعى المعرفي في إضاءة العلاقة القائمة بين سلوكياتنا اليوم والموروث الحضاري مايعني أنَّ للتاريخ إمتدادات وتمثلات في أنماط الحياة المعاصرة. وآلية تفكيرنا كما أنَّ المعطيات العلمية الحديثة تفتحُ مجالاً للنظر في المسلمات التاريخية. ومن هذا المنطلق تتعامل الكاتبة والباحثة السورية ميادة كيالي مع التاريخ فبرأيها أنَّ هذا الحقل مفتوح على التأويل ولايستقيمُ الفهمُ بصيرورته بعيداً عن التطورات العلمية. بادرت كيالي بدراسة موقع المرأة في الحضارات القديمة معتمدة على المنهج الوصفي والتاريخي والمقارن في مقاربتها للموروث الحضاري صدر لها (المرأة والألوهة المؤنثة في حضارات وادي الرافدين) و (هندسة الهيمنة على النساء الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة) وهي تقدمُ في سياق دراستها معلومات مُستفيضة عن تركيبة المجتمعات القديمة ومانشأَت في حاضنتها من المعتقدات والأنظمة والشرائع. حول أهمية تقديم القراءات الجديدة للتاريخ خارج الأنساق المتعارف عليها ومكانة المرأة في السرديات الأسطورية كان لنا حوار مع ميادة كيالي التي تنعكسُ في اهتماماتها الحضارية مؤثرات مجال اختصاصها في الهندسة المدنية.
- أين تكمن أهمية تأويل السرديّات التاريخيّة خارج النسق الذكوريّ؟
تكمن في إعادة إنتاج معرفيّ يكشف أموراً غاية في الأهمية في تاريخ النساء، بل يكشف ما يمكن تسميته ب «تاريخ النّساء»؛ فالسرديّة الذكوريّة جعلت من الرّجل مركز الكون وباني الحضارة، ومصدر الإلهام وصاحب الفكر والإبداع، وجعلته، بالتالي، ينظر بدونيّة للمرأة، ويعدّ نفسه وصياً ومهيمناً عليها، وألغت دور المرأة وأقنعتها بأنها أقلّ منه شأناً، وحرمتها لآلاف السنين من أن تعي تاريخها الحقيقيّ، وأن تفكّر حتى بالبحث والتقصّي عنه، بل جعلتها تحيا وتستمتع بكونها ظلّ البطل وموطئ متعته وحاضنة أبنائه، فقط لا غير.
• كان الانقلاب الذكوريّ متزامناً مع اكتشاف المعادن وإنشاء المدن؛ برأيك لماذا خدم هذا التحوّل هيمنة الرجل، وتمّ تطويع الوسائل الجديدة لتكريس سلطته؟
سبق العصر البرونزي، أو النحاسي (الكالكوليت 5000-3000 ق.م)، الذي اكتُشفت فيه المعادن، العصر الحجري الحديث (النيوليت 8000-5000 ق.م)، وفي هذا العصر كانت المرأة قد دجّنت الحيوانات واكتشفت الزراعة، التي تمثّل الثورة الزراعية الأولى في التاريخ، وساهمت في استقرار المدن، ليأتي بعدها اكتشاف المعادن واختراع المحراث والأدوات المعدنية، فحدثت الثورة الصناعية الأولى في التاريخ، والتي ساهمت في إحداث وفرة باليد العاملة، وأيضاً ساهمت في وفرة الإنتاج وزيادته، بالتالي؛ نموّ الموارد والثروات. هذا التحوّل في وسائل الإنتاج ساهم في تكوين الإمبراطوريات الأولى، واشتداد ساعد الرجل المحارب، وتشكّل الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وهنا بدأت ملامح الانقلاب الذكوري على المجتمع الأمومي بالظهور من خلال أمرين:
الأول؛ حين تمّ سحب خطّ النسب من الأم، بعد أن تمّ تشريع الزواج الأحادي للمرأة، ومنع التعددية، لضمان طهورية النسب، وذلك من خلال القانون التاريخي الأول في منع التعددية للمرأة، على يد المصلح الأول في التاريخ؛ أوركاجينا (2378-2371 ق.م).
فالنساء قديماً، كانت (الواحدة منهنّ) تتزوج رجلين.
أما النساء في الوقت الحاضر، فيرجمن بالحجارة (إذا فعلن الشيء نفسه).
بالتالي؛ نقل خطّ التوريث والملكية لصالح الرجل، وتشريع عقوبة الزنا على المرأة المتزوجة، للمرة الأولى في التاريخ، من خلال قوانين أور-نموَ وهي أول لائحة قوانين دقيقة، ظهرت مع شريعة أور-نموَ، مؤسس سلالة أور الثالثة، الذي حكم بين (2095-2113 ق.م)، وضمّت أكثر من ثلاثين مادة، خمسة مواد منها كانت تخصّ عقوبة الزنا.
تقول المادة السابعة (أور- نموَ): إذا تقرّبت زوجة (رجل) من نفسها من رجل (آخر)، وشرعت بإقامة علاقة جنسية معه، تقتَل تلك المرأة، أما الرجل الذي أغوته فيطلق سراحه.
أما الأمر الثاني؛ فكان في استعباد النساء في الحروب واستغلالهن في العمل في الدعارة، نظراً إلى سَنّ قوانين الزواج الأحادي، التي حدّت بالتأكيد من المشاعية وجاذبيتها، ولم يكن ليرضى بأن يقيّد جنسانية المرأة لولا المقابل المهم بالنسبة إليه، وهو انتقال النسب، واستمرار التعددية من ناحيته مشرعنة ومفتوحة، ومنها تمأسست الدعارة.
هل يمكن البتّ بشأن الجدل القائم حول شكل العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات البدائية؟ هل كان الزواج المكوّن من الوالدين موجوداً أو أنَّ الإباحية سبقت ظهور مؤسسة الزواج؟
لا شك في أنَّ الدراسات التي تناولت نشوء العائلة لم تجد طريقها للنور قبل بداية الستينيات من القرن التاسع عشر، وعلم التاريخ حينئذ كان خاضعاً حينها للأسفار الخمسة الأولى للعهد القديم؛ لذلك جاءت جميع الدراسات تصف البدايات على أساس بطريركي، وأنَّ العائلة تشكلت منذ البداية برعاية الأب، وهو الأصل، والعلاقة بين الوالدين، وكأنّها العلاقة المتعارف عليها اليوم، وكان أول من طرح فكرة الأصل الأمومي للمجتمعات السويسري، يوهان ياكوب باخوفن، في كتابه المشهور «حقّ الأم»، عام 1861، والذي كان خارجاً عن التفكير السائد آنذاك، واعتمد طرحه العديد من العلماء؛ كتحقيق في الطابع الديني والقانوني للنظام الأمومي في العالم القديم، وتعدّدت الدراسات فيما بعد، والتي منها ما اتفق مع باخوفن، كما الألماني فريدريش إنجلز، والإسكتلندي ماك لينان، والأمريكي لويس مورغان، وغيرهم، ومنهم من اختلف، مثل: الفنلندي عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا، ويستر مارك، في كتابه المشهور «تاريخ الزواج»، الذي رأى أنّ هناك من خلط بين الممارسات الطقسية وممارسات العائلة التي رأى أنّها، منذ البداية، تكوّنت باعتمادها الزواج الأحادي، رافضاً الإباحية، ومستنداً إلى مقارنة أحادية الزواج عند القرود الشبيهة بالإنسان. بالنسبة إلى سؤالك عن أنَّه «هل يمكن البتّ بشأن ذاك الجدل؟»، أقول «نعم»، فبعد أن تمّ فكّ رموز الكتابة المسمارية الذي عُدَّت ثورة هائلة في الأنثروبولوجيا، غيّرت في التاريخ وأخرجت النصوص وكنوز حضارات الرافدين للوجود، منذ اللحظة التي تمّ فيها فكّ رموز جلجامش على يد عالم الآثار، جورج سميث، عام 1872؛ فقانون أوركاجينا، الذي أوردته، فيما سبق، أحد البراهين على أنَّ التعددية كانت متاحة فيما قبله، فالقوانين تأتي بعد تراكم طويل للظاهرة، وهذا ما استدلّ به العلماء على مشروعية التعدّد للمرأة قبل ذلك، وكذلك قوانين الزنا التي تبعته، وأتت بعد أن تمّ تشريع الزواج الأحادي للمرأة، إضافة إلى حلّ شيفرة العديد من العقود والقوانين التي ساهمت في إماطة اللثام عن تاريخ حقيقي للمجتمع الأمومي.