اهتمت الفلسفة في عصرنا الحاضر باللغة والأسماء والإشارات. وطفقت تبحث عن العلاقة بين الدوال والمدلولات. وبعد أن تزايد اهتمام أهل الفكر وشيوخ اللغة بهذا الموضوع، أطلق على هذه الحقبة اسم المنعطف اللغوي. وقد وضعت مؤلفات كثيرة حول هذا الجانب من الفلسفة، وبدأ الهواة يجربون حظهم فيه. لأنه بطبيعته يقبل الكثير من الإضافات. فحينما نتحدث عن شيء، ونستخدمه بذاته، يمكننا أن نزيد وننقص فيه ما نشاء.
ويبدو أن الفلسفة لم تعد تمتلك ما تنشغل به في هذا العالم، بعد أن أشبعت حاجات الإنسان المادية والمعنوية، فهرعت تبحث عن الجمل والعبارات والأسماء والأفعال دون أن تجد فيها ما يثير الدهشة. وأخذت تشكك في وظيفة اللغة نفسها، هل هي وسيلة للتواصل بين الأفراد، أو هي طريقة للتعبير عن الذات. وقالت أنها أولى مراحل اكتشاف الحقائق العلمية، ولا بد أن تنطلق المعرفة منها. مع أن مثل هذه الأمور لا تعطيها أي ميزة على ما أودعه الله في أجساد مخلوقاته من نعم!
وفي رأي مارتن هيدغر فإن أخطر هذه النعم جميعاً اللغة، لأنها هي التي تبدأ بخلق إمكانية الخطر. وبفضلها يجد الإنسان نفسه معرضاً للانكشاف. فإذا كان الأخير موجوداً فهو يحاصر الإنسان. وإذا كان غير موجود فهو أما أن يسيئ إليه أو يقيه من السوء!
وتحدث آخرون عن العلاقة بين الأسماء والأشياء، هل هي طبيعية أو اتفاقية. وهو موضوع قديم تطرق إليه مفكرون يونانيون وعرب. فنسب أفلاطون إلى سقراط قوله أن التسمية طبيعية. وأن الاسم على ما يبدو محاكاة صوتية للشيء المحاكى. في حين لم يوافق الفارابي على هذا الرأي وقال أنه يتفق أن يستعمل الواحد لفظة ما فتشيع عند جماعة، وكلما احتاج ضمير إنسان إلى كلمة اخترع صوتاً ما وهكذا.
أما تودورف الذي أطلق «البنيوية» من عقالها في ستينيات القرن الماضي بكتابه «نظرية الأدب» فيفرق بين اللغة والخطاب. فالأولى لديه نسق صوري، والثاني حدث تأريخي لأنه يبتدئ بجملة من طرف شخص إلى طرف ثان.
مثل هذه «النظريات» وسواها، تملأ بطون الكتب هذه الأيام، ولا تكاد تخلو منها صحيفة أو مجلة أو موقع. فقد أغرم بها النقاد العرب وشرعوا يترجمون ويعلقون عليها في كل مكان.
وقد حاولت أن أجد لها أي نفع أو ضرورة فلم أعثر لها على وجه. ولم تقع عيني على مردود يبرر كل هذه الضجة. فهي مجرد ملاحظات عابرة تحدث عنها القدماء مثل ابن جني والتوحيدي والقاضي عبد الجبار وسواهم في صفحات قليلة. ولو كنت مكان النقاد العرب لبحثت عما يدفع ببلداننا خطوة إلى أمام. ولم أنشغل بهذه الفصول. فما نحتاجه هو التغيير الشامل في المجالات العلمية والتقنية والإنسانية. ونحن لا نعاني من مشاكل لغوية، بقدر ما نعاني من الفقر والتخلف، والصراعات والحروب، والهيمنة والتبعية.
محمد زكي ابراهيم