خالد شاطي
نحن المعوقين أناس بسطاء؛ لأن أمنياتنا تبدو لكم بسيطة. هذا إن نظرتم لها أصلاً على أنها أمنيات: أن نبصر، أن نسمع، أن نمسك الأشياء بيد أو يدين، أن نسير برجل أو رجلين أو… كما في حالتي أنا: أن نركض ( أنا مصاب بشلل جزئي في رجلي اليسرى) أن أركض! إن أنا حاولت فسأثير حتماً اشفاق الناس أو ضحكهم أو أسبب لهم الغم.
وكنتُ أخيراً بدأتُ طرحَ سؤال على كل من أعرفه: متى ركضتَ آخر مرة؟ لأكتشف أن كثيرين – إن تذكروا – لم يركضوا مذ غادروا سن الطفولة أو المراهقة؛ أو على الأقل منذ سنوات طويلة! الغالبية فاجأهم السؤال كما لو أنهم نسوا أن هنالك شيء اسمه الركض.
أما أنا؛ فكيف لي أن أنسى آخر مرة ؟ ذلك أنها كانت أيضاً أول مرة أركض فيها….
××××
على الشارع الطويل المسفلت؛ كنا نسير عائدين إلى حينا: أخي الصغير وأنا. ندفع عربة جميلة فارغة أشبه بالصندوق لنعيد تحميلها بحاجيات أخرى ونصحب بعض جيراننا وحوائجهم معنا إلى بيتنا الآخر الذي لذنا به في أطراف المدينة، بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية ببضعة أيام. ما زلت للآن مزهواً بذلك القرار الذي اتخذته فجأة – أنا ابن العشرين عاماً آنذاك – والذي اثبتت الأحداث صوابه بعد ساعات قليلة فقط: الفرار.
حين التفتُّ خلفي؛ رأيت المنظر المهول. ربما كان صوت أحذية الجنود وهي تضرب اسفلت الشارع بذلك الإيقاع العسكري الموحد والمنضبط هو ما حملني على الالتفات. صفوف متوازية وطويلة من الجنود المدججين بالأسلحة الخفيفة والثقيلة تتقدم نحونا، لا تبعد عنا سوى مئة متر. كان منظرهم رائعاً ومرعباً كأنه حلم.
قطع أخي هروبه الذي لم أنتبه له، وعاد ليقف متردداً على مقربة مني ينظر إليّ باستنكار ورعب:
– اترك العربة ولنهرب!
– لا، لا ، ما كو شي. فلنواصل. ايش علينا احنه؟
هكذا أظنني تمتمت وأنا أواصل دفع العربة . أخذ أخي يصرخ كمجنون:
– ولك اشرد. ايش تنتظر. اشرد، اشرد.
بث صراخه الرعب فيّ. فانحرفت بالعربة بقوة في جانب الطريق وتركتها تندفع نحو أحد هياكل البيوت وتنكفأ هناك. ورحنا نركض، رحنا نركض في بقعة واسعة من أرض تتوزع فيها بعشوائية بيوت واطئة غير مكتملة . ورغم كل شيء نظر أخي إلي بدهشة – استشعرتها أنا أيضاً- لمسايرتي سرعته. انحرف هو في شارع فرعي وغاب عن ناظريّ وواصلت أنا الركض. كنت أشعر بخفة؛ بلذة غريبة؛ كأن روحي تحررت من قيودها وانطلقت محلقة في الفضاء. بدأت أسمع أزيز الرصاص حولي. مرت واحدة قرب اذني ورأيت أخرى تستقر في جدار بيت أمامي. لم التفت ورائي. لا أدري إن كانوا يسعون خلفي أم أنهم يصوبون رصاصهم من الشارع. لم أتوقف لأعرف ذلك. لم أحس ألماً ولا خوفاً ولا قلقاً. عشت لحظتي بكاملها، غبطة صافية ولذيذة. كنت ذلك الحيوان المطارَد من حيوان مفترس، أرنب أو ظبي؛ سعيد بجريي ووثبي؛ مقصياً كل شيء من ذهني.
وبعد أن قطعت مسافة كبيرة رأيت بعض الناس أمامي ينظرون إليّ دون أن يهربوا أو يبدو عليهم الاهتمام بشيء ما خلفي. فتوقفت عائداً إلى بشريتي؛ إلى وعيي.
ورحت أفكر:
كان بإمكانهم قتلي. ما كان شعورهم وهم يطلقون عليّ النار؟ هل كانوا يضحكون؟ يشعرون بالشفقة؟ يملأهم الأسى؟ أم وجدوا أن لا عقاب أكبر من أن أُترك لشأني؟!
أحب أن أصدق أنهم أخطأوني فقط.
×××××
أنا انسان بسيط جداً، لأن أمنيتي الوحيدة تبدو لكم بسيطة جداً. هذا إن نظرتم لها أصلاً على أنها أمنية. لا أمانع مطلقاً أن أكون مطارداً من الموت ثانية – ما يزال ذلك الظرف الذي حقق أمنيتي وسيظل قائما – لذا لا أتوقع أن تكون تلك المرة مرة وحيدة وأخيرة.