هيثم الزبيدي
يتحدث الغرب الآن عن استيحاء مشروع الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت في ثلاثينات القرن العشرين والمسمى “الاتفاق الجديد” لإنقاذ العالم من الهاوية الاقتصادية والنفسية التي يعيش فيها اليوم. وباء كورونا بدد الآمال في التعافي من الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الانهيار المالي عام 2008 والأزمة السياسية – الأخلاقية التي نجمت عن هجمات سبتمبر 2001، ثم غزو العراق عام 2003، وإطلاق غول الإرهاب كما لم يحدث من قبل. روزفلت تصدى لـ “الكساد الكبير” بالاستثمار متعدد الأوجه في رفع عبء البطالة والفقر عن الناس، واستعادة حركة الاقتصاد من قبضة الكساد، وإصلاح النظام المالي لمنع تكرار الكارثة. كان تغير التوجه السياسي للولايات المتحدة، من التيار الجمهوري المحافظ إلى الانفتاح نحو التحالف الديمقراطي، جزءا مكملا أو نتيجة تكميلية للمبادرة. مبادرة روزفلت أنقذت الولايات المتحدة، لكنها، كما نعرف، تأخرت في إنقاذ أوروبا وانتهينا باندلاع الحرب العالمية الثانية.
ليس الهدف هنا الاسترجاع التاريخي. لكن الحماسة التي يبديها السياسيون اليوم لضخ الأموال في الاقتصاد تحتاج في بعض منها لإعادة توجيه. نعم إن العالم يحتاج أن يعالج حالة الكساد وأن تضخ الدول المال في مفاصل قطاعات الأعمال، بل وفي جيوب الناس، ولكن بالحكم على تجارب سابقة فإن هذا لن يكفي. ثمة حاجة حقيقية لتكييف نفسي وثقافي وفكري يتناسب مع حجم الهزات التي تعرض لها الناس. ضخ للثقة وضخ للمال سوية في أبعاد إضافية وحيوية. الحديث عن الثقافة ودعمها أساسي وجوهري.
سحبت الدول والمؤسسات، وخصوصا في عالمنا العربي، أيديها من دعم المشاريع الثقافية. يجب ألاّ نتوهم ونقول إن المشاريع الإعلامية هي مشاريع ثقافية. المشاريع الإعلامية بوجهين: سياسي وترفيهي. السياسي يخدم توجهات البلد السياسية ويدعم وجهات نظر قيادتها. إذا كان موضوعيا، فيحقق غايات مهمة. وإذا كان دعائيا، فربما من دونه أفضل. مشروع شركة ترويج وعلاقات عامة قد يكون أكثر فائدة.
المشروع الإعلامي الترفيهي مهمّ. الترفيه واحد من أكبر صناعات العالم اليوم. الإنتاج السينمائي صناعة بعشرات المليارات. الإنتاج الدرامي، سواء الموجه للتلفزيون أو الفضائيات أو البث التدفقي، هو الأكثر سخونة في المشاريع الصاعدة اليوم. الحفلات الغنائية والمهرجانات من علامات المدن الفارقة، يقصدها الناس للترويح عن أنفسهم. لكنه يبقى ترفيها. في كثير من أوجهه ينهل من النتاج الثقافي، من أدب وشعر ومسرح، لكن لا أحد يأخذه محمل الجد كعنصر مؤثر في المسيرة الثقافية القادرة على رفع مستوى الحس النقدي والفكري لدى الناس.
لا يوجد إطار موحد للاستثمار في الحياة الثقافية لدى الدول. هناك قواسم مشتركة بالطبع، مثل دعم الفنون التشكيلية والمسرحية ورعاية الأدباء والشعراء. لكن التغير الكبير الذي يشهده العصر، وحالة الالتباس الفكرية السائدة مع صعود المشاريع الدينية، وانكشاف عدد كبير من المثقفين والاستنتاج بأنهم في أفضل الأحوال مجرد ناقلين عن الفكر الغربي أو مترجمين لنصوص بعيدة عن الواقع، كل هذه العوامل تحتاج إلى وقفة تأملية من قبل الرعاة التقليديين للثقافة، سواء الحكومات أو المؤسسات: في عالم تشح فيه الموارد، كيف ينبغي توجيه الدعم للحركة الثقافية ولمن على حساب من؟
لا بد من قبول مساحة من الخسائر. مهما كان كرم الحكومات أو المتبرعين من المؤسسات، لا يمكن أن يجاري قدرات المؤسسات الدينية وإمكانياتها المادية. أوقاف وتبرعات وخمس وعائدات من زيارات العتبات المقدسة واستثمارات دول في التدين السياسي، كلها تصب في صالح المشروع الديني المسالم أو العنيف، العام أو الطائفي. لن يتمكن أيّ إنفاق على الثقافة من المجاراة. هنا التعويل سيكون على النوعية. طالما لا تستطيع أن تبسط فرشا واسعا ليضم كل مناحي الثقافة، فإن الخيار البديل هو الانتقائية والتركيز على بعض المشاريع. هناك قائمة الأساسيات طبعا من مجمعات ثقافية ومنتديات. لكن شهدنا كيف تمّ قطع الدعم عن المنابر الثقافية من مجلات ومهرجانات وندوات. استمر الدعم للبعض لأن القائمين عليها رفضوا الاستسلام، وحاربوا لكي يستمروا. لكن الأغلبية ذوت واختفت وأصبحت في كتب التاريخ. حتى الكتّاب ممن كانوا يعملون في وظائف أخرى ويوفّرون المال لطباعة كتبهم أو دفع أجرة القاعات التي تستضيف لقاءاتهم، يئسوا أمام الإهمال الحكومي والشعبي أو التحدي الديني. في النهاية، المثقف فرد وأعزل، وهو إنسان لديه قدرة على الاحتمال والمطاولة لزمن قبل أن يستسلم للواقع.
مثلما شهدنا الخلل في التركيز على مناحٍ اقتصادية وسياسية حياتية وإهمال الثقافة والفكر في الثلاثينات وقد قاد إلى كارثة الحرب العالمية، نقول إن عالم اليوم لا يختلف كثيرا. الغرب متعجل في تحريك عجلة الاقتصاد، ويضخ الأموال والمنح وكثيرون يعقدون الآمال بأن لا ينسى الثقافة. لكن هل عالمنا العربي، وهو أساسا غارق في الحروب ولا يحتاج إلى من يشعلها، يعتبر أن استثناء الثقافة من أيّ مشروع إنقاذي، “اتفاق جديد” أو “عقد جديد”، مقبول؟
*عن مجلة الجديد