رحاب أبو زيد
ابتدعتُ مجموعة مصغرة مكوّنة من أفراد الأسرة من النساء، نأخذ فيها جولة واسعة حول الحارة مشياً سريعاً لترييض الحلم حتى لا يترهل، ولترويض الخوف حتى لا يستفحل، نقوم بعدها بحفنة من التمارين الرياضية الخفيفة خلال اليوم نقطع بها ساعات الجلوس الطويلة، كنت قبلاً ألوم ثلاثة: المتذمرين والملولين والمصابين بالوسواس القهري، ترى كيف حالهم اليوم، هم من يجب تجنبهم حالياً أم الاقتراب منهم لنشهد على التغيير العظيم.
تعلمتُ في لحظة واحدة مكثفة أن السجن داخلك.. وأنك أنت السجّان الوحيد المخوّل بتدمير سجينك.
تعلمت أن الناس في الأزمات يتوقون للأحضان المواسية، وفي اليوجا هناك تمرين جيد اسمه الحضن الذاتي! وفي المستقبل.. قد لا تحتاج لأحد.
تعلمتُ أن الشعور بوطأة الملل العام منوط بالمسافة التي تفصلك عن الناس.. وأن الموازنة هي في البقاء بينهم والحفاظ على تفاؤلك.
تعلمتُ أن نوبات الذعر ليس حلها الهيام في الشوارع أو مسكنّات منوّمة، إنما اليقين.
أقضي يومي قبل الجائحة إلى حد كبير يشبه ما بعدها، كنت في عزل قبل العزل، وأعمل عن بُعد قبل أن يصبح الأمر ظاهرة، كنت أظن أني في غربة لا علاقة لها بالمكان، وبلا مقدمات لحق بي كل الكون، ها أنا أزاول الانشغال نهارًا، ثم ساعات متقلبة بين أخبار العائلة والعالم على وسائل التواصل الاجتماعي، وانتهاءً بالاسترخاء بعد يوم من الاسترخاء أمام شاشة التلفاز بحثاً عن لا شيء، ربما أنقذ شيئاً من الليل بقراءة صفحات من كتاب، بعد محاولات خائبة للحصول على تصويت الأغلبية في اختيار مسلسل أو فيلم، ينتهي الجدل بانصراف كل إلى شؤونه – داخل المنزل – لألوذ بوحدتي في الظلام المحيق حولي إلا من أشعة الشاشة والصوت على وضع “مكتوم” والأجسام والألوان أمامي تتسابق في حركة مستمرة مع عقلي وكأنها تقول هل سأنجح في أن أحوز على انتباهها، عجيب كيف تمضي ساعات سابحاً في اللانهائية.. كفضاء أمام طائرة أو عمق البحار أم غواصة! ثم تفيق وقد انهالت عليك الأسئلة في معقلٍ إدراكيّ بالدرجة الأولى.. ما الذي يحتّم عليك مشاركة الآخرين عجزهم وأنت حر وقادر؟
نادت علينا أختي للقيام بالدورة اليومية المعتادة للمشي، فتكاسلتُ وتذرّعت بالتعب نهياً للروتين من اقتحام يومي البسيط، ثم تمددتُ بأريحية على أريكتي – التي ما أن يقترب منها أحد حتى أعتبره انتهك خصوصيتي – بنبرة متوسلة قالت: ألم تكن فكرتك؟ انشغلت بأخبار كورونا على قناة العربية، تقتلني الأخبار فأغيّر القناة، يحاصرني الجهل فأعيد القناة، يتسلل لسمعي صوت المذيع متحدثاً عن تجربة التعليم عن بُعد وتقاربها مع شكل الكتابيب القديم، مختلطاً بصوت جارتنا من فوق سطح بيتهم المقابل، يبدو أن سهرات السطوح ستعود دون تنبؤ بحجم ما قد تعيده معها من حميمية.
يدقّ المنبه لتذكيري بموعد مؤجل لدى صالون الأظافر، وآخر معلّق لدى إدارة التصاريح في البلدية، في الحقيقة لم أعرف بعد إذا كانت حالتي يمكن وصفها بالدهشة، إذ أنني حتى الآن لم أصح يوماً إلا وسؤال يباغتني هل نحن جميعاً نحلم الحلم نفسه؟ بالعادة اعتزال الناس وفرض المسافات منطقة مرنة تحت سيطرتي، حتى ظننت أني سأموت وحدي، اليوم أرجو أن يعودوا للفرح حتى أعود لأحزاني، ضجرهم وقلقهم وبدايات كآبتهم حمّلتني عبئاً، وأنا لست حفلة للترفيه ولا منصة لرفع المعنويات، المزاج العام هو الذي يخنقني أكثر مما يفعل الفايروس، عندما كنت أكتب وأتحدث عن الحرمان وأنه هو المعلم الأول لم يسمعني البعض والبعض اعتبرني قديمة الطراز، ها هم يتعرفون عن قرب على ضيف ثقيل لكنه كالمعلم الرشيد اسمه الحرمان.
عادت شلة البنات من مشوارها الرياضي، وأنا أقاوم حزمة من الملهيات وأبذل جهداً مضنياً كي أحافظ على اتزاني العاطفي فلا يتأثر بما يسمع أو يرى حول العالم، وبالتالي أحتاج لوقت يقارب الساعتين صباحاً حتى أعلن أني صحوت بالفعل، وإذا ما سألني أحد متى تستيقظين لسبب ما، فإني صدقاً لا أعرف، قد أستيقظ في السابعة لكني لا أصحو إلا في العاشرة، رمقت البنات بطرف عيني الساهية وأنا أراهنّ ولا أراهنّ، لفت نظري هدوء غير مسبوق، ماذا هنالك؟ قالوا عدنا بالكيك من محل الحلويات القريب على ناصية الشارع، كي أبدي اللامبالاة بشعور الذنب النابض أسفل رسغيّ، رفعت صوت التلفاز، ووجدتني أقفز من صومعة الدهشة.. أريكتي، لأنقضّ على قالب السكّر والشوكليت والسعرات الحرارية بحثاً عن السعادة، تنبّهوا أني لم أسأل عن المناسبة، فتبرعت إحداهن “اليوم عيد الأم، كل عام وأنت أحلى أم”..
آآآه يا أمي
هذا يثبت أن الأيام تعيد نفسها شكلياً فقط، أشك أن تعود الحياة لسابق عهدها قبل جائحة كورونا، مؤكد ستكون أفضل بكثير.
ثمة موسيقى منقذة من اليأس والحيرة، كصوت جوليا بطرس الثائر الحنون الذكي الساخر، تجعلك تنتشي فرحاً وأملاً وضحكاً ولا تدري أهي تعني ما تقول أم تقول النقيض بطريقة ساحرة، النتيجة واحدة الموسيقى علاج:
رغماً للجوّ المشحون
تبعاً للظرف المرهون،
مطرح ما عيونك بتكون.. بحلم شوفك يوماً ما
بكرة بيخلص هالكابوس
وبدل الشمس بتضوي شموس،
وعلى أرض الوطن المحروس
راح نتلاقى يوماً ما
*عن مجلة الجديد