حاوره : كه يلان محمد
لم يشهد التاريخُ فيلسوفاً قد كسب فكره أنصاراً من كل بقاع العالم واخترقت طروحاته حواجز القومية والإثنية مثلما صار ذلك لكارل ماركس الذي أصبحَ علامةَ لتحول المسار الفلسفي. فهو قد أراد النهوض بدور الفلسفة بحيثُ تكونُ أداةً للتغيير وليست مجرد مفاهيم تُفسر الواقع. وكشف صاحب “رأس المال” السر وراء ظاهرة الاستغلال التي وصمت تاريخ البشرية، لافتاً إلى أنَّ التغرب ما هو إلا حرمان الإنسان مما ينتجهُ أكثر من ذلك. وأكد ماركس على الترابط بين الواقع والفكر. فبرأيه لاتقف الفلسفة خارج العالم مثلما أنَّ عقل الإنسان لا يكونُ خارجه لأنَّه ليس معدته. كما عرفَّ منظر الشيوعية البضاعة بأنها عبارة عن سلطة شيء على الإنسان أو المنتَج على المنتِج. ومن المعلوم بأنَّ الاهتمام يذهب دوما إلى ماركس الفيلسوف ونادراً ما يتمُ الالتفات إلى البعد الإنساني لدى فيلسوف الديالكتيك فهو قد عانى الأمرين في حياته ويكتبُ لصديقه أنجلز مداعباً “لا أعتقد أن أي أحد جرب الكتابة عن النقود وهو مفلس تماما” وما صدر أخيراً من دار ميم بالجزائر بعنوان “موريسكي في الجزائر” يرصدُ رحلة كارل ماركس للجزائر حيث أمضى 72 يوماً هناك راسل صديقه أنجلز وعائلته حول محتويات الكتاب كان لنا حوار مع مؤلفه عبدالعزيز بوباكير .
ـ لماذا لم يهتم كتّاب سيرة ماركس بالفترة التي أمضاها في الجزائر، هل تفسر ذلك بغياب دوره في النشاطات السياسية والفكرية نتيجة تدهور صحته؟
*في خريف عمره أمضى كارل ماركس 72 يوما في الجزائر العاصمة للعلاج من مرض ذات الجناب. ونصحه الأطباء الانجليز بالجزائر، نظرا لاعتدال مناخها ودفئها. وبالفعل، تكاد هذه الفترة من حياة ماركس مجهولة، وتفسير ذلك هو أن الباحثين ركزوا على ماركس الفيلسوف والاقتصادي والمناضل الأممي، وأهملوا ماركس الإنسان. ورسائله من الجزائر، وعددها 16، لا تطرح شيئا جديدا في النظرية الماركسية بقدر ما تقدم فكرة عن ماركس في معاناته مع المرض انهياره نفسيا وتبرمه من سوء الأحوال الجوية، إذ صادفت إقامته في الجزائر موجة من الأمطار والبرد والعواصف.
كان الغرض من رحلة “ماركس” إلى الجزائر استشفائياً بدرجة أولى، هل استفاد من معاينته لأوضاع الجزائريين في عهد الاستعمار لتطوير مفاهيمه بشأن الحملات الكولونيالية؟
*جاء ماركس إلى الجزائر للاستفادة من دفئها للعلاج من مرض كان يعاني منه، وليس لدراسة الظاهرة الاستعمارية, كما أنه كان معزولا تقريبا في أعالي العاصمة وسط الأوروبيين. ولم يطلع بما فيه الكفاية عن أوضاع “الأهالي”. وشاع عن موقفه من استعمار فرنسا للجزائر كلام غير صحيح، كالقول بأنه بارك المشروع الاستعماري. كان ماركس قد أوضح موقفه من الاستعمار ونمط الإنتاج الأسيوي والاستبداد الشرقي، خاصة في مقاله “عن الهيمنة البريطانية في الهند”، مبرزا فكرة أن الاستعمار بقدر ما يبني الحداثة، بقدر ما يهدم البني التقليدية، وأن الغرب يمثل الرقي والشرق الجمود.
ـ ثمة من يرى بأنَّ ماركس كان مقتنعاً بالمركزية الأوروبية والدليل على ذلك هو ما ورد في البيان الشيوعي بأنَّ القوميات المتخلفة تجدُ طريقها إلى التمدن والتحضر بفضل الأمم الغربية هل صادفتَ في رسائله ما يؤكدُ تمسكه بهذا الرأي؟
*في رسائله لا. رسائله تكتسي طابعا شخصيا حميميا، وكانت موجهة إلى عائلته وأصدقائه. أما عن “أٍورومركزيته” فقد أثارت جدلا واسعا وثريا في الدراسات ما بعد الكولونيالية. وفي هذا يظهر موقف ماركس من الاستعمار والمجتمعات الآسيوية والتحول الاجتماعي والرقي والحداثة. ويجب الإشارة إلى أن ماركس تحدث عن الهند، ولم يزرها، وبنى على مثالها نظرية كاملة حول نمط الإنتاج الآسيوي والاستبداد الشرقي. وهو ما دفع ادوارد سعيد إلى حد اتهامه بالاستشراق “العنصري” للعالم غير الغربي.
ـ تشير في كتابك إلى أنَّ الجزائريين في رسائل ماركس هم نماذج فلكلورية، هل نفهم من ذلك بأنَّه كان يكرّس الصورة النمطية للشرق؟
*لم يلتق ماركس بالجزائريين، والصورة التي كوّنها عنهم أخذها من الأوروبيين. ومن هنا النظرة الفلكلورية، نظرة المكتشف المندهش أمام عالم جديد بالنسبة إليه. ومع ذلك، ثمة في رسائله تعاطف مع الجزائريين، وإعجاب بكفاحهم، خاصة في المقال الذي كتبه عن الأمير عبد القادر في الموسوعة الأمريكية الجديدة.
ـ هناك تضارب بشأن موقف ماركس حول قادة الانتفاضات الشعبية التي شهدتها الجزائر في عهد الاستعمار الفرنسي، منهم “بوعمامة”، هل فعلاً كان متأثراً بالعقلية الاستعمارية في توصيفه لمناهضة الاستعمار الفرنسي؟
*صادفت إقامة ماركس في الجزائر ثورة بوعمامة، لكنه لم يتحدث عنها في رسائله. وما أثير عن حديثه عن إعدام بوعمامة لا أساس له من الصحة. وماركس لم يصف بوعمامة “باللص” و”قاتل محترف من العرب”، ولم يصف حادثة إعدامه بالمقصلة، لأن بوعمامة لم يعدم أصلا، وتوفي في 1908 بالقرب من مدينة وجدة بالمغرب وهو مدفون هناك، أي بعد موت ماركس ب 15 سنة.
ـ تقول في مقدمة كتابك بأنَّ العودة إلى ماركس ليست عودة لفهمه بقدر ما تهدف إلى الإبانة عن عجزنا لتغيير ذواتنا بأدوات الآخر هل هذا يعني أنَّ الفشل متعدد الأبعاد لا نحسن فهم العدة الفكرية لغيرنا وليس لدينا ما يفيد للخروج من المأزق؟
*العودة إلى ماركس يفرضها في الغرب ما تعيشه مجتمعاته من استلاب واغتراب، وعندنا ما نعيشه من تخلف حضاري. والعودة إليه عندنا ليست عودة لفهم طروحاته النظرية والاستفادة منها، بقدر ما هي محاولة لفهم عجزنا لتغيير ذواتنا بأدوات الآخر، بعبارة أخرى لفهم استلابنا من أنفسنا واغترابنا عن أنفسنا.
ـ يصنفُ المفكر الإنجليزي تيري إيغلتن فلسفة ماركس ضمن مناهج نقدية مضادة تخالف مبدئياً التحنط الفكري والأدلجة لماذا برأيك غلب النهج التحزبي على المسلك النقدي في فهم ماركس ؟
*كان ماركس يرد على خصومه الذين كانوا يقولون عن نظريته إنها “حتمية اقتصادية” بالقول: “إذا كانت هذه هي الماركسية، فأنا كارل ماركس، أكيد، لست ماركسيا” وهذا ما حدث للماركسيين العرب. فبدلا أن يكيّفوا تفكيرهم مع نظريته، حوّلوه إلى صنم يعبد يفسروا به العالم، بينما هو كان يدعو إلى تغييره.. فطغت عندهم الايديولوجيا على العلم، والتحزب على التحرر.
ـ من المعروف عن ماركس اهتمامه بتعلم اللغات، لماذا لم يحاول ماركس تعلّم إحدى اللغات الشرقية أو الآسيوية؟
*صحيح كارل ماركس كان يجيد، إضافة إلى لغته الأصلية (الألمانية) عدّة لغات، منها الانجليزية والفرنسية والايطالية والروسية واللاتينية. أما عن عدم محاولته تعلّم لغة شرقية أو آسيوية، فربّما يرجع إلى ضغط الكتابة والنضال. وفي رسائله من الجزائر خليط من اللغات الألمانية والانجليزية والفرنسية، ونجد في البعض منها تعابير بالإسبانية والايطالية والإغريقية والروسية والعبرية.