دولابُ الزَّوجة

أنمار رحمة الله

لم أكن أرغب كثيراً بالأطفال، على عكس زوجتي التي كانت تحلم أن نُرزق بطفل، أو بالأحرى طفلة جميلة ذات عينين تشبهان عينيّ كما في خاطرها وتمنّيها. كلما جلسنا على المائدة، كانت زوجتي تنبهني دائماً إلى أن طفلتنا المدللة التي سنُرزق بها لاحقاً، سيكون لها شأن، وأنها – زوجتي – لن ترضى لابنتها إلا بحياة مناسبة، من مدرسة وشهادة وزوج كفء لها. في الوقت الغالب كنت أتماشى مع رغباتها وأحلامها، لا أريد إفساد وقتها ورجاءها بفلسفتي في جدوى ولا جدوى أن ننجب أطفالاً لنموت ويموتون هم لاحقاً. ثم أن وضعنا الصحي قد فرض علينا أن نكون بلا أطفال أساساً، بعد نضال حافل بالفحوصات الطبية وغيرها، أكد لنا الأطباء أن مسألة إنجابنا لطفل مهمة مستحيلة. لهذا كنت أجاريها في الحديث، بل أشجعها وأقف إلى جانبها رأفة بها. حتى حدث الشيء الأغرب في حياتي..!. حين دخلتُ ذات ليلة إلى المنزل فاجأتني زوجتي بصوتها :

  • هل أتيتَ حبيبي… عندي لك مفاجأة .. تعال تعال إلى الغرفة
    ولما دخلتُ إلى غرفة النوم طالعت هيئتها وهي تطبق كفيها كراهبة تصلّي، وتنظر بعينين فاضت منهما البهجة إلى دولاب ملابسها!. اقتربت منه لأجد بدلة طفلة معلقة في وسطه، بدلة وردية اللون ذات رسم لدب صغير وحوله باقة من الورود. نظرتُ إلى زوجتي وقلت لها:
  • ما هذا عزيزتي..؟ إنها بدلة
  • لا لا…انظر إليها جيداً.. إنها أبنتنا
    امسكت يد زوجتي وأبعدتها عن الدولاب وقلت لها:
  • لابأس عزيزتي.. هدئي من روعك قليلاً
  • انتظر لا تأخذني بعيداً عنها، لعلها جائعة لكي اطعمها
  • هي ليست جائعة.. إنه مجرد ثوب من قماش
  • من قال هذا..؟! لقد كانت تبكي قبل قليل حتى نامت قبل مجيئك !.
    تلك البدلة الصغيرة في الدولاب نثرت بذور القلق في أرض قلبي، وقد نما زرعه وكبر حين صارت زوجتي تتصرف بأحوال غريبة. تجلس عند منتصف الليل وتفتح الدولاب لتتأكد أن البدلة نائمة او تبكي جائعة. مرة ونحن جالسان على المائدة تركتني زوجتي وهرولت صوب دولابها، وصاحت بأعلى صوتها:
  • لقد فعلتها اللعينة.. تعاني من الإسهال الشديد ويجب أخذها للطبيب.. أريدك أن تجلب لي المزيد من الحافظات عزيزي ونأخذها للطيب اليوم
    نهضت وراءها وقلت لها وأنا أضع رأسها بين ذراعيّ:
  • لابأس.. سآخذها إلى الطبيب وحدي.. لا تكترثي
    وبالفعل بعد صراع مرير معها استطعت إقناعها بأخذ – البدلة – إلى الطبيب بمفردي، كنت أمشي في الشارع وأنا أضع البدلة في كيس، وكان الناس ينتبهون لي حين أتمتم مع نفسي، ضاحكاً تارة وتارة أخرى حزيناً وخائفاً في الوقت ذاته على عقل زوجتي ورشدها. ثم بعد استشارة من طبيب نفسي، وضح لي أن المسألة مجرد صدمة، وستزول مع مرور الأيام، ولا يحتاج الأمر إلا لمساندتي لها وتفهم الوضع جيداً. ومع مرور الأيام، صارت البدلة الصغيرة تجلس معنا على المائدة، وحين نخرج لزيارة ما تخرج معنا..
    في إحدى الصباحات تفاجأت بلعنات زوجتي وهي داخلة إلى المنزل، تشتم إدارة مدرسة البنات القريبة من منزلنا، وتقول:
  • مديرة المدرسة الغبية.. تظن أنني مجنونة..! لا ترضى بطفلتي تلميذة لديها في المدرسة؟!
    هدأت من غضبها وقلت لها بعد أن طوقتها بذراعيّ:
  • لا تشغلي بالك.. اتركي الأمر كما هو نحن مستمتعون معها ولن يضر بقاؤها بلا مدرسة.
    انتبهت إلى البدلة التي كانت تضعها زوجتي على كتفها، كما تضع الأم طفلة حقيقة من دم ولحم، نبضت أو تحركت!. بالأحرى أن كمّها قد تحرك على رقبة زوجتي!. افلتها من بين ذراعيّ، ثم فركت عينيّ وقلت في نفسي أنها هلاوس وقعت في فخها. أو أن تيار هواء المروحة العمودية القريبة هو السبب. غير أن شكي بدأ يتنامى مع مرور الأيام. حين سمعت صوت حركة مريبة داخل الدولاب، ولما أردت النهوض من فراشي، سبقتني زوجتي كأن إحساساً بفطرة الأمومة قد جعلها تسبقني إلى سماع ذلك الصوت، أخرجت البدلة وظلت تهدهد لها كما تهدهد الأم لصغيرها لكي ينام. ثم علقتها في الدولاب ونظرت إليّ وقالت:
  • لا تكترث حبيبي.. لعل بعض غازات الأمعاء تزعج نوم طفلتنا الصغيرة وها قد نامت.. أرجوك اكمل نومك
    بعد مدة دخلت على زوجتي التي كانت تجلس في الصالة، وإلى جنبها ثوب فتاة مراهقة موضوع بعناية على الأريكة، وحين رأتني هتفتْ:
  • اسرع.. إنه فيلم جميل.. لقد بدأنا بمتابعته أنا وابنتي ونحن في انتظارك
    ابتسمت بالرغم من ثقل حزني الشديد وقلت لها:
  • نعم لا بأس… سألتحق بكما بعد قليل
    ثم أنني وبخت نفسي على هذه السخافة، لقد صرت أساير زوجتي وتلك البدلة التي تحولت إلى ثوب لا أدري من أين جاءت به، وأين اختفت البدلة الوردية القديمة.. لا أدري!. كل ما أعرفه الآن أنني في حالة قلق شديد، وقد قررت التحرك بشكل جدّي لأنقذ زوجتي من الجنون، إن لم تكن قد جُنت بالفعل. حتى حدث ما حدث يومها حين خاطبتني قائلة :
  • اليوم عصراً سيأتي خطيبٌ لأبنتنا.. نريد اللقاء به والتعرف عليه أكثر
  • أي خطيب هذا..؟ عزيزتي دعينا نسافر لبضعة أيام ونغير الجو.. أرجوكِ
  • وخطيب الفتاة..! هل نطرده؟!. لقد اتفقت معه على موعد ومن المعيب أن نخلف المواعيد معه من البداية
    لقد كنت جالساً في الصالة أمام الأريكة مبتسماً، لكن قلبي تقضمه الكآبةُ. كانت زوجتي تجلس وقربها ثوب ابنتها المفترضة، وفي الجهة المحاذية لهما بدلة شاب أنيقة، بقميص أبيض وربطة عنق مقلمة فيروزية. قالت الزوجة مخاطبة بدلة الشاب:
  • إذن أتمنى لكما حياة زوجية جميلة. ثم بكت كما تبكي الأمهات فرحاً
    كانت زوجتي تنظر إليّ نظرات غضب وهي تبكي، لأنني لم أكن مسيطراً على نفسي من الضحك الذي كنت أكتمه بكفي.. ثم استأذنت منها وغادرت المكان صوب الحمام، وحين عدت بعد دقائق إلى الصالة وجدت زوجتي بمفردها!. فتشت عن ثوب الفتاة وبدلة الشاب فلم أجدهما، فسألتها متحيراً:
  • أين الملابس التي كانت هنا.. عفواً.. أعني أين ابنتنا وخطيبها؟!
  • خرجا للتو للتنزه والمرور على بعض المحال للترتيب لحفلة الخطوبة
    لم أتمالك نفسي، وهرولت صوب الباب لكي أتأكد وفي قلبي شك رهيب في ما تقوله زوجتي، وحين فتحت الباب شاهدت البدلتين تسيران في الشارع جنباً إلى جنب، حتى اختفيا عن ناظري بعيداً.. جفلتُ صارخاً من الدهشة، فوضعت زوجتي كفها على كتفي وربتت عليه وقالت:
  • لا تقلق… سيعيشان حياة سعيدة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة