ماجد كيالي *
باتت العلاقة الروسية ـ التركية على المحكّ، تبعاً لتطور الأوضاع في سوريا، وتبعاً لمآلات الاختبار بين عناد السلطان (رجب طيب أردوغان) وصلافة القيصر (فلاديمير بوتين).
لم يعد الأمر يقتصر على مجرد تصريحات سياسية، إذ بات يشمل الاشتباك، ولو غير المباشر، على الأرض، وفي الجو، في نوع من إصرار كل طرف على فرض أجندته على الطرف الأخر.
والحال، فقد وجد أردوغان نفسه على عتبة الخروج من الملف السوري من بوابة إدلب، وهو شعور متأخّر بالطبع، في حين أخذ الغرور ببوتين الذي شعر أن بإمكانه فرض أجندته على تركيا، بتحجيم دورها، أو مكانتها، في الملف السوري.
في نقاش الصراع الدائر بين الطرفين، اللذين كانا بمنزلة حليفين سيما في سوريا في الأعوام الثلاثة الأخيرة، يفيد طرح الملاحظات الآتية:
روسيا كانت السباقة للتدخل العسكري المباشر في سوريا 2015، في حين حصل التدخل العسكري التركي المباشر في عملية “درع الفرات” (شمالي حلب) بعد سنة 2016، وبينما كان التدخل الروسي (سيما عبر سلاح الجو) يشمل سوريا كلها عدا شرقي الفرات فإن التدخل العسكري التركي (بقوات برية) اقتصر على الشمال السوري.
ثانياً، من حيث المشروعية لا يملك النظام شرعية دعوة أية دولة لإرسال قواتها للقتال في سوريا، لأن الدعوة ليست لصدّ اعتداء خارجي من دولة أخرى، وإنما لوأد تطلع الشعب الى الحرية والتغيير السياسي، ولأن الدعوة تتضمن إشراك الجيش الروسي في قتل وتشريد ملايين السوريين وتدمير عمرانهم (بمشاركة إيران وميليشياتها)، علماً أن ذلك يفتح على نقاش فكرة «السيادة»، فهل هي للحاكم أم لمجموع المواطنين، أي للشعب، باعتباره هو مصدر السيادة في النظم السياسية الجمهورية؟
ثم من أين تستمد روسيا (أو إيران) الشرعية بقصفها المدنيين السوريين، وتشريدها إياهم من بلدهم؟ ومثلا، فهل كان بإمكان الرؤساء مبارك والقذافي وبن على والبشير وبوتفليقة وعادل عبد المهدي دعوة روسيا أو غيرها أيضاً للدفاع عنهم؟
ثالثًا، لا يمكن نقاش مسألة الشرعية بمعزل عن تحول سوريا إلى ساحة للصراع الدولي والإقليمي، بوجود قوات عدة دول منها روسيا وإيران (مع ميلشيات لبنانية وعراقية وإيرانية وأفغانية)، من جهة النظام ووجود مناطق نفوذ لتركيا (في الشمال السوري) والولايات المتحدة الأمريكية (شرقي الفرات)، دون أن ننسى الذراع الطويلة لإسرائيل، واعتبارها منطقة الجنوب كمنطقة آمنة لها.
المهم أنه بالنظر الى كل تلك المعطيات، وبواقع وجود حدود طويلة بين تركيا وسوريا، فإن التدخل التركي بات بمثابة تحصيل حاصل، علماً أن تركيا تحيل مشروعية تدخلها إلى اتفاق أضنة الموقع بينها وبين الحكومة السورية في ظل حافظ الأسد (1998)، بل إن ذلك اكتسى شرعية جديدة من اتفاق سوتشي 1(سبتمبر 2018) و2 (اكتوبر2019)، في لقائي القمة الذين جمعا بوتين بأردوغان، وهو اتفاق اكتسب قبولاً دولياً ضمن مسار أستانة، وفوق كل ذلك فإن تركيا هي الأكثر تأثراً من مجريات الصراع في سوريا، بخاصة مع تدفق ملايين اللاجئين السوريين إلى أراضيها.
رابعاً، من تفحص مجريات الأمور، حتى الآن، يمكن ملاحظة أن الطرفين لا يتوخيان الدخول في صدام عسكري مباشر، وإن ما يجري هو بمثابة محاولة لي ذراع كل واحد منهما للأخر، لكن من جهة أخرى لا يمكن لأحد التكهن بما قد يحصل، بالنظر لعناد السلطان، وصلافة القيصر، بمعنى أنه يمكن للأحداث أن تتطور، من دون تحديد مستوياتها ومداخلاتها الخارجية. لكن يبقى أن السيناريو الأفضل يتمثل بتحجيم الدور الروسي، ووضع بوتين عند حده، وهذا هو أقل ما هو مطلوب بعد كل ما فعلته روسيا في سوريا، وما جلبته من كوارث على الشعب السوري، لكن ذلك يتطلب، فقط، تصليب الموقف التركي، الذي تأخر كثيراً، إذ أن “السلطان” لا يملك التراجع لأنه سيخسر داخلياً وخارجياً، في حين أن القيصر لديه هامش معين للتراجع أو للوصول إلى حل وسط.
خامساً، الفكرة السابقة مصدرها أن موقفاً تركياً صلباً، مع دعم دولي قوي، وعملي، من شأنهما أن يضعا حداً لصلافة بوتين، لأن هذا الطريق وحده هو الذي يمكن يمهد لخريطة حل سياسي، لإنهاء الصراع السوري، علماً أن ذلك مرهون بالموقف الأمريكي أساساً.
بصراحة فإن ذلك الاستنتاج ليس مستحيلا، أو غير واقعي، فتركيا قوية، اقتصادياً وعسكرياً، لو أحسنت إدارة أوضاعها وتحالفاتها، وروسيا بوتين هي مجرد رجل مريض ومترهل يعيش على ما تبقى له من ادعاءات وتوهمات وعضلات مترهلة باتت عبئاً عليه، ولا يشهرها إلى في وجه شعوب لا تملك الحد الأدنى من وسائل القوة لصد عنجهيته، لذا ربما أن الأوان للقول له لا، وهذا لا يحتاج إلى حرب، بقدر ما يحتاج إلى موقف حاسم.
سادسا، كل التحليل السابق لا يغطي على حقيقة مفادها أن تركيا، بقيادة أردوغان، أخطأت في التعامل مع الملف السوري، من البدايات، ويأتي ضمن ذلك التشجيع على العسكرة والأسلمة، وتمكين فصائل معينة دون غيرها، أو على حساب الجيش الحر، كما يأتي ضمن ذلك ابتعادها عن الولايات المتحدة الأمريكية، ورفضها المشاركة في الجهد الدولي لمقاتلة “داعش”، ما فتح المجال لقوات قسد، وهنا يأتي أيضا كيفية تعاطيها مع الملف السوري الكردي، وعدم فصلها له عن الملف الكردي في تركيا، وقوات البي كي كي.
بديهي أن ذلك يشمل انخراطها في تحالف استانة الثلاثي غير المفهوم وغير المقبول، مع شريكي النظام (روسيا وإيران)، وهو التحالف الذي ابتدع قصة المناطق الأربعة “منخفضة” التصعيد، ومسار التفاوض في استانة، وهو ما استمر ثلاثة أعوام (2017ـ2020). ومعلوم أنه في غضون تلك السنوات تمكن النظام (بمعونة روسيا) من شطب ثلاثة مناطق في الشمال والجنوب والوسط، بتسهيل أو بسكوت من تركيا (ضامنة المعارضة)، ما شكل ربحاً صافياً للنظام، ما يعني أن تحركها الأخير أتى فقط بعد أو وصل التهديد إلى حدودها عبر منطقة خفض التصعيد الرابعة (المتبقية) وهي إدلب.
الجدير ذكره أن التوتر الروسي ـ التركي الحاصل نشأ على خلفية تراجع روسيا عما تم الاتفاق عليه في سوتشي 1 وسوتشي 2 ، لجهة وجود نقاط تركية في منطقة إدلب ودوريات مشتركة عند الطريقين الدوليين إم 5 (دمشق حلب) وإم 4 (حلب اللاذقية)، ما تم ترجمته بإعطاء ضوء أخضر للنظام السوري وميليشياته لأخذ مناطق خان شيخون والمعرة وسراقب لتأمين الطريقين، واستبعاد تركيا، بل وتوجيه ضربات مباشرة لجنودها أدت إلى مصرع عدد منهم.
المهم أن الرد التركي في الأيام الماضية استعاد المسألة السورية إلى رأس جدول الأعمال، وأن التداعيات الناشئة أكدت أن الحل العسكري سيكون مكلفاً لكل الأطراف، وأن الأولوية يفترض أن تكون لوضع بيان جنيف 1 على رأس الأجندة، نظرياً وعملياً.
*عن موقع درج