لم يمر وقت طويل على اعلان المكلف بتشكيل الحكومة السيد محمد توفيق علاوي عن انسحابه، حتى اعلن رئيس الجمهورية برهم صالح عن انطلاق المشاورات لاختيار مرشح بديل، خلال المدة الدستورية (15 يوماً) لنعود برفقة حيتان حقبة الفتح الديمقراطي المبين، الى جولة جديدة من المفاوضات تضع نصب عينيها مهمة العثور على بديل، لا يستخف بحجم وحصص عتاوي المشهد الراهن. المتابعون لما يحصل من تجاذبات وتعقيدات في المنعطف الحالي، يدركون جيدا ان المشكلة لا تكمن بشخص رئيس مجلس الوزراء، بل هي ابعد واعقد بكثير من ذلك، وقد اشرنا في العديد من المقالات والمناسبات، الى جوانب من ذلك الخلل البنيوي، والذي يدفع بجميع القوى والكتل المتنفذة لافشال واعاقة بعضها للبعض الآخر. وما حصل مع السيد علاوي يؤكد على مدى تمسكها وامتعاضها من طريقة اختياره، واصرارها على عدم التفريط بحقها في وضع من تجدهم مناسبين لحصصهم الوزارية والادارية وغير ذلك من المواقع السياسية والتنفيذية، وهي بذلك تؤكد حرصها على عدم انجراف عربة العملية السياسية بعيدا عن سكة التوافق وفقه السلة الواحدة، ذلك المنهج الذي يرفضونه في العلن ولا يحيدون عن أبسط تفصيلاته في التنفيذ والعمل.
المشاورات التي اشار اليها رئيس الجمهورية لن تفضي لغير البديل التوافقي، الذي يطمئن الكتل المتنفذة على مصالحها ومناطق نفوذها، مع تقديم شيء من التنازلات للحراك الاحتجاجي المتواصل منذ أكثر من خمسة أشهر في العاصمة بغداد ومناطق الوسط والجنوب. ان وهم الحصول على رئيس مجلس وزراء قوي ومستقل عن خارطة نفوذ الاقطاعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية، يلحق أبلغ الضرر بامكانية الوصول الى حلول وسبل واقعية وعقلانية للمأزق الراهن. وكما اشرنا فان مواهب من تلقف مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير” تكمن في فن اعاقة بعضها البعض الآخر واجهاض مشاريعه وخططه بكل السبل الممكنة؛ وفي مثل هذه المناخات والاصطفافات لا يمكن انتظار ظهور شخص أو كيان او مؤسسة قوية ورصينة بالمعنى الحديث لمفهوم القوة، وهذا ما يدركونه جيداً اذ لم يكتفوا بتقاسم اسلاب النظام المباد وحسب، بل استثمروا بكل مكر ودهاء بما خلفه من مساحات للتشرذم الطائفي والاثني…
ضمن سياقات النظم الديمقراطية المعروفة، يعد مشهد انسحاب السيد علاوي من مسؤولية التكليف أمراً طبيعياً، لكنه في مثل الحال والاحوال التي يعيشها العراق حالياً؛ يحمل بين ثناياه الكثير من المعاني والرسائل غير المطمئنة على حاضر ومستقبل هذا الوطن المنكوب. بالاضافة الى ما لا نختلف عليه بشأن طبيعة الكتل المتنفذة وهوياتها “القاتلة” وشراهتها وضيق افقها، نجد في مواقفها هذه عدم اكتراث واضح بما اندلعت من اجله الاحتجاجات الاخيرة وما رافقها من تضحيات وتداعيات خطيرة. بالرغم من كونها مواقف متوقعة، من اطراف وكيانات خبرناها قبل زوال النظام المباد وبعده، الا انها جاءت متفقة وما حذرنا منه، من عيوب وثغرات رافقت الحراك الاحتجاجي وجرفته بعيدا عن المطالب الواقعية والمتفقة مع قدراتنا الفعلية على التغيير والاصلاح. ان المازق الحالي والذي ننخرط فيه جميعاً من شتى العناوين (موالاة ومعارضة) وما بين بين من مجاميع وافراد، يضع أمامنا مجددا مهمة اعادة تنظيم انفسنا على اساس الهوية الوطنية والحضارية الطاردة لكل اشكال التشرذم والتقوقع وكراهة الآخر المختلف بالرطانة والخرقة والهلوسات…
جمال جصاني