د. نادية هناوي
المهم في الشعر ليس شكله وهندسية بنائه؛ إنما الذي يهم هو قدرة الشكل الشعري على تأدية المعنى وحمله. وليس كل شكل قادر على أداء معنى ما، فشكل قد يسهل عليه حمل المعنى الذي تعجز عن حمله الأشكال الأخرى، وقد لا يتساوى حمل ذلك المعنى بين شكل وآخر وربما تعجز الأشكال كلها عن حمله، فيضطر الشاعر إلى التجريب صانعا لمعناه شكلا تجريبيا جديدا يجمع فيه أكثر من شكل.
والعلاقة بين الشكل ومعناه الشعري تعني الاندماج على مستوى الأجناس الشعرية، كما تعني تآزر الواقع مع الخيال، فيفيد الأول من طاقة الثاني وبما يجعل القصيدة قادرة على المواجهة والتغيير ضدا بضد، انزياحا واستنفارا على مستوى اللغة، وقلبا واستفزازا على مستوى الدلالة.
وهذا نوع من التجريب الشعري الذي هو متاح لكنه غير مأمون العواقب دائما، فلعل معنى ما ليس قابلا لأن يتمظهر دائما بالشكل الذي يريد الشاعر عبره توصيل رؤيته للعالم.
الخيال وقدرة الشاعر على التفلسف
والقصيدة التي تتمثل التجريب الشعري بالتداخل على مستوى الجنس وتجمع بين الفكر والخيال على مستوى الشكل والموضوع، سنسميها( القصيدة الذهنية) التي هي سمة من سمات شعر ما بعد الحداثة؛ والسبب أن الحياة الواقعية لم تعد حقيقية وأن ما من سبيل لفهمها واستيعاب أبعادها سوى بالخيال.
والمعتاد في الشعر أنه فسحة الخاطر التي بها نتخلص من أعباء العقل وشكوكه وتساؤلاته، بيد أن اللامعتاد في الشعر هو أن يكون فسحة العقل الذي يجد في التخييل والخيال تفكرا به يتدبر الحياة بلا جمود أو شائكية.
وقد يبدو هذا مستغربا إذ كيف يكون الخيال أداة من أدوات العقل وهو الذي لا يعتد إلا بالتعليل والمنطق في تفسير الواقع ؟
على وفق قانون الاحتمال الأرسطي فإن الشعر لا يعرف المستحيل ومثلما أن الممكن الحاصل هو كالمحتمل المتوقع حصوله، فلا غرابة إذن أن نجد في الخيال أداة قوية تمنح الشاعر قدرة على التفلسف بذهنية مفكرة تبحث عن الحقيقة وقد استنهضتها سيكولوجيا الإدراك الواعي وحفزتها فيوض الحس اللاوعي.
وبالاستنهاض والتحفيز يعتمل الخيال وقد انغمس بالفكر، محولاً الشاعر إلى كائن أثيري متحرك ما بين ماضٍ سحيق وحاضر مرير وقادم محزن ليس فيه سوى الخطر والضياع.
الصمت ليس عزوفا
ولئن كانت حياتنا وما فيها من التعقيد والتشويش بعيدة عن التفكر ولا وقت فيها للتأمل أو الاستبصار، صار حرياً بالشعر أن يقترب بالحياة من التأمل وأن يكون الشاعر شاهد عيان على العصر.
ومن سمات القصيدة الذهنية الصمت الذي به يغدو الفعل الذهني ممتدا بلا كلام وهو يتأمل الواقع بالخيال ويصنع من الخيال واقعا. وبالصمت لا تغوي القصيدة الذهنية قارئها بالزعيق وهي تسعى إلى مرامها في تغيير العالم الذي هو عاج بالضوضاء واللجب ومصطخب بالفوضى والضجيج والثرثرة أصلا، بل تعتمد في إعلان التبرم على الصمت خرسا وسكوتا، محاولة تخليص العالم من هول فوضاه وتشوشه.
وليس الصمت عزوفا ولا هو تحنيط؛ بل هو قوة تروض الذات على التفكر كي ترى ظلها وتتأمله من دون كلام. وحياتنا اليوم التي طغى عليها التشويش لم يعد يناسبها شعر الخطابات والشعارات والهتافات؛ بل الصمت تفكرا هو الذي يوقظ الشعور ويهز العاطفة ويقويها.
وأساس الأزمة الشعرية التي يمر بها شعرنا العربي المعاصر والراهن هو افتقاره إلى الصمت الذي به يعمل الشعر عمل الفلتر، منقيا حياتنا من الصخب والفوضى ومرشحا لنا الصفاء والسكينة.
والقصيدة الذهنية هي النمط الذي جربه الدكتور سعد الصالحي في أغلب قصائده ولا سيما في مجموعته( بلاغ رقم اسكت) الصادرة عن دار غيوم والملتقى الثقافي العراقي ببغداد وفيها نجد الصالحي متفكرا ومتخيلا، مستشعرا الخطر ومتنبئا بوقوعه، متأملا ذاته في المجموع، حزينا حيال الإنسانية وهي سائرة إلى طريق مسدود، وقد بات لديه التفلسف أمرا متيسرا ومرنا لا جمود فيه ولا استعصاء ولا فوضوية، متجها صوب الصمت حاملاً على عاتقه المجموع عاداً الإنسان هو المحور والمقصد.
القصيدة الذهنية ليست جثة
وعنده القصيدة الذهنية ليست جثة هامدة وهي تقلب التشويش إلى صفاء، وقد استنفذ فيها الحوار دوره وما عاد للصوت صداه. وكأن قصيدته تقول لقارئها ( اعرف نفسك بأن تتأملها من خلالي) وهي تقارع الاعتياد بالخرق وتنفض عنها التسليم بالتأمل راغبة في الصمت متنفسا للتفكير. ومن ذلك قصيدة( ائتهم) وفيها يقول:
( فتمم يا غراب نصف لساني / أنا مع الموت موت/ قبلت الحوار / وارتضيت ببنات نعشي نجوما/ ها هنا صوت العرب / ها هنا صوت الكرب / ../ بغداد يا بغداد / صوتك يناديني/ وعيونك الياقوت يا ليلي يا عيني) ص71ـ ص73
ولان القصيدة الذهنية قصيدة صماء تغدو الحنجرة شظية معطلة عن أن تصيح وكل ما حولها عواء وبكاء ورزايا وانتحاب وصهيل. لذا لا سبيل أمامها غير الانتفاض بالصمت، كما في قصيدة مساء الشظية الأخيرة:
( تعلمت أن أعوي فقط / حدث أن ابتلع حوتي القمر / وحيدا بلا قمر / أيها القمر/ رتبني كما شئت/ فانا أعشق آخر أجزائي/ وقد تركتها في ارض الحرام/ تطير.) إلى أن يقول:
( بيد أن شباكي ما زالت تزاحم نايا / وربابا / وعواء ذئب جريح/ يصيح / بحنجرة الشظية/ لأنك عبرت إلي / سعت بقدميك العاريتين ..) ويختمها ( تعلمت أن اعوي / الشهداء هم أطرافي / تأمل) ص19ـ 22
وفعل التأمل هنا مقصود لأن في التفلسف خدمة، يقول مايكل لينفسن: «إن ما تقوم به الفلسفة من خدمة وما تؤديه الثقافة التأملية حيال الروح الإنسانية يعنيان إيقاظها وإجفالها لتنبهر من اجل أن تكون مثل الحياة « كتابه( أصول أدب الحداثة) ص31.
صيغة الطلب والتداخل والتناص
ومن الأساليب التي عمقت الصمت بوصفه بؤرة شعرية اعتماد صيغة الطلب إلزاما ووجوبا وإجبارا كأمر عسكري لا مجال لمعارضته أو حتى مناقشته. ولا تكاد تخلو قصائد الصالحي من وجود الطلب فيها بالأمر والنهي بدءا من العنونة التي هي ليست مجرد عتبة يلج منها القارئ إلى طبقات النص وخفاياه بل هي المنتهى في خارطة طريق شائك فيه كثير من الفكر الشعري الذي يتطلب إنصاتا وصمتا، ومرورا بالاستهلال الذي تتكرر فيه لفظة أمر ( إن الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك) وانتهاء بالمتن الشعري الذي تهيمن عليه أفعال الأمر والنهي( ألقموني علقة الدم وعلقوا لي أرنبا صغيرا على باب الدار) و( قاتلوا بذنوبكم / فليرمها / لا تسال ، لا تسمني/ فلتكن / امسك / لا تلوح / اسكت/ لا تلوح …الخ)
وتتعزز صيغة الطلب بالتداخل والتناص كسمتين مهمتين في القصيدة الذهنية لان بهما يجرب الشاعر الأشكال والتقانات راغبا في المغايرة مازجا الشعر بالفلسفة جاعلا الحل الشعري متواصلا مع الحل الفلسفي داخل التجربة الذاتية. وهو ما يسمى بالمونادوليجية أي النظام الذي ينبعث من الداخل فيحول التعددية الوحدوية إلى فكرة موحدة جماعية. مما نجده في شعر اليوت وباوند كفلسفة فيها تتجلى رؤيا العالم.
والمنحى الفكري في قصيدة سعد الصالحي يجعلها ذات تعددية فيها الوزن والسرد والقصر والطول والومض والتفصيل والإيجاز والقطع والوصل والتناص والمناص، مستدعيا التاريخ والشعر والمأثور من الكلام التراثي والشعبي والشعر الحديث.
وبالصمت يعرض الشاعر تجربته الشعورية وقد تجلت فيها صور الحرب والحصار والظلم والانكسار. والشاعر هو الجندي العائد من حرب ضروس بخفي حنين. ليس له سوى ذكرى أليمة عن صحب نسيهم التاريخ ومستقبل ملغوم ومع ذلك فإن الحاضر معتمر بالإصرار:
( ونحن لن نهاجر/ لكننا/ سنبقى نعشق الطيور )
والتفكر والتأمل طريقان يبعدان الذهن عن التشويش ويجعلان الواقع متسقا بالخيال، والصمت نبوءة بها يرسم الشاعر نهايته كحنجرة سقطت، مأسوف على سقوطها الشعرُ والضميرُ اللذان بهما لن يعرف السقوط طريقه إلى الشاعر وهو يؤثر الصمت وينبذ الكلام.
والقصيدة الذهنية عائمة لا ضفاف للفكر ترسو عندها، ولا مذهب يحتويها ولا قالب يلفها، كالسفينة في البحر المتلاطم. هيكلها التساؤل وغطاؤها الأمر والنهي وحيزومها تداخل الأجناس والتعدد في التناص وعمود ساريتها الصمت.
وبالرغم من أن للقصيدة عتبة غير أنها متاهة، يهيمن عليها السكون فيتعمق امتدادها وتغدو متملصة في حركاتها تحلق في المجهول ثم تغور في الأعماق مسلوبة وسالبة متذبذبة وثابتة.
وإذا كان المطلوب من القصيدة أن تكون لسان حال الشاعر؛ فإنها باعتماد الصمت تصبح هي الشاعر نفسه كنسخة منه تحكي عنه ما لا يستطيع أن يحكيه وهو يقاوم التلاشي والضياع.
ومهما تغايرت أشكال القصيدة وتلونت صفاتها تظل بالنسبة للمغرم بها طيعة لا تخاتله، فهي اسمه الذي يدل عليه، وهويته التي بها تعرف مكانته ولطالما عرف الشعراء الكبار بقصائدهم. فأنشودة المطر والخيط المشدود إلى شجرة السرو ودجلة الخير ونخلة الله وانتظريني عند تخوم البحر والرزنامة وغيرها ليست قصائد حسب بل هي أسماء تدلل على أصحابها الذين أبدعوها وقصيدة (بلاغ رقم اسكت) اسم يضاف إلى تلك الأسماء وقد دل على سعد الصالحي الذي سيظل يعرف بها صامتا ناطقا وساكتا متكلما.