في ذكراه..
سلام مكي
مرت قبل أيام الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشاعر والاكاديمي الدكتور» خالد علي مصطفى». وخالد علي مصطفى كما يقول عنه صديقه الشاعر سامي مهدي: شاعر عراقي بنظر الفلسطينيين وشاعر فلسطيني بنظر العراقيين. هذا الشاعر الذي عاش في العراق منذ سنيه الأول، كان يحمل بداخله همّين: الهم الفلسطيني والهم العراقي. فهو خرج من وطنه الأم، على أمل أن يجد في وطنه الجديد ما يتمناه كل مثقف ومواطن عربي، لكنه صدم بأن وطنه الجديد، لا يختلف كثيرا عن وطنه القديم. بهدوء، رحل خالد علي مصطفى، وبهدوء أيضا مرت ذكراه الأولى على الوسط الثقافي الذي خدمه خالد، طوال حياته. فلم يذكره أحد، ولا مؤسسة، ولا وسيلة إعلامية، سوى صديقه الشاعر سامي مهدي، الذي ذكّر بوفاته. تجربة علي مصطفى الغنية، شعرا ونقدا، كانت ولازالت محط اهتمام بالغ من الوسط الثقافي، ولعل الأصبوحة التي أقامتها اتحاد الأدباء والكتاب عام 2018 لمصطفى، وحديثه عن الراحل سركون بولص، وما شهدته تلك الأصبوحة من مداخلات مهمة، كان أبرزها مداخلتي رئيس الاتحاد ناجح المعموري والناقد فاضل ثامر. المحنة التي لازمت خالد علي مصطفى منذ بواكير حياته، لم تؤثر على نفسيته وسلوكه وكتاباته. وأعني بالمحنة التشرد والضياع والتفتت المركزي للهوية وفقدان علاقته بالأرض، بوصفها جزءا مكملا للهوية. والعيش بعيدا عنها. كان ضياع وطنه أشد وقعا من ضياعه شخصيا. ويمكن تلمس هذا الضياع من خلال عنونة دواوينه الشعرية. موتى على لائحة الانتظار. وهو أول ديوان شعري صدر له عام1969. والموتى الذين يقصدهم خالد علي مصطفى ما هم إلا اللاجئون الذين وإن غدروا مدنهم هربا من الموت، لكنهم لازالوا على لائحة الانتظار. ولعل اللجوء بنظره ما هو إلا موتا بطيئا. الديوان الثاني» سفر بين الينابيع» الصادر عام 1973 يشير إلى استقرار الحالة النفسية للشاعر. في ديوانه الثالث: البصرة ــــ حيفا. هذا الديوان نشره مصطفى بعد مرور 6 سنوات على صدور الديوان الأول. والعنوان يشير الى مزج الشاعر المحطة الأولى له في وطنه الجديد وهي البصرة مع مدينة حيفا الفلسطينية. والشاعر هنا، رغم أنه عاش بين الينابيع، لم ينس مدينته الأم أو المدينة التي تمثل بعدا روحيا وثقافيا لدى الفلسطنيين وهي حيفا. ثم رسّخ الراحل وطنه الأم في شعره عبر دواوينه اللاحقة كديوان» سورة الحب» عام 1980 وديوان» المعلقة الفلسطينية» عام 1989. وآخر تلك الدواوين هو» غزل في الجحيم». عام1993. كما له دراسات نقدية عديدة منها: الشعر الفلسطيني الحديث عام 1973 و شاعر من فلسطين و» في الشعر الفلسطيني المعاصر. آخر تلك الدراسات كتاب» شعراء البيان الشعري». وكما هو معروف أن خالد علي مصطفى أحد الموقعين على البيان الشعري عام 1969 . في كتاب» شعراء البيان الشعري» الصادر عام 2015 عن دار ميزوبوتاميا في بغداد، تناول الشاعر فيه، الشعراء الموقعين على البيان الشعري، وهم كل من سامي مهدي وفوزي كريم وفاضل العزاوي. يقول خالد علي مصطفى عن نفسه في مقدمة كتاب» شعراء البيان الشعري» : إني لأعترف، واثقا غير متردد، بقصوري التام عن علم العلاقات العامة. لا أجيد الدعاية لنفسي، ولا أعرف أي كتف من أكتاف المؤسسة الثقافية والإعلامية تهيء لي قطعة من لحمها الصالح للأكل. لا أراسل أحدا من خلق الله له القدرة على التسويق الأدبي أو توسيع مجال الشهرة، ولا أطلب من هذا الناقد أو ذاك أو ذياك، أن ينشر مقالا أو بحثا، يتناول فيه ما يعزز قيمة ما أنا طالب منه. لعل هذا ما يفسر لنا ابتعاد مصطفى عن الأضواء، كذلك ابتعاد الآخرين عنه.
إن خالد علي مصطفى، عاش اغترابا ثقافيا، لم يعشه أحد غيره. ذلك الاغتراب الذي جعله حبيس ذكريات الطفولة والحنين إلى وطنه الذي لم يفارقه لحظة. فهو من جانب، وقّع مع شعراء عراقيين ما يعرف بالـــ « البيان الشعري» . بالمقابل، نجده قد كتب عن الشعر الفلسطيني في تلك الفترة. ولم يكتب عن زملائه شعراء البيان الشعري الا عام 2015. وعن هذا السبب، يقول خالد» ما الذي يدعوني الآن إلى أن أدلي بشهادتي حول شعراء جيلي… في هذا الوقت المتأخر…؟ قد لا تكون الاجابة مقنعة حين أقول: لن يتبقى من شعراء هذا الجيل إلا قصائدهم الجديرة بالبقاء. أما ضجيجهم وآراؤهم وملاسناتهم وما اصطنعوه لأنفسهم من حق ومن غير حق. أما مدوناتهم ولا سيما» البيان الشعري» في التاريخ الأدبي. ذلك أن ذمة هذا التاريخ الواسعة، قمينية بلم شعث ما قيل مهما كان دالا على نوازع شخصية تزكي النفس أو على النفس أو على منحى معرفي يزكي العقل. إن فلسطينية خالد علي مصطفى لا تمنع عراقيته، فما قضاه من عمر في العراق، وما أنجزه من أدب وثقافة، تجعله عراقيا أصيلا. وما حنينه إلى أرضه الأم، بخادش لعراقيته. بالمقابل، فإن ينابيع البصرة وبغداد، رغم ما تركته من أثر في نفسه، لم تجعله ينسى ينابيع فلسطين.
خالد علي مصطفى، يحتاج إلى اهتمام حقيقي، يتناسب مع تاريخه الأدبي ومكانته العملية والثقافية، يحتاج إلى استذكار يليق برجل، رحل وبداخله جرح تناسل إلى جروح متعددة.