جبار وناس
ضمن متابعتي لما ينشره الكاتب «أنمار رحمة الله» من قصص جديدة له، قرأتُ له اليوم قصتين الاولى (أشباح وأحاديث) والمنشور في ثقافية جريدة الصباح الجديد بتاريخ ٢٦ يناير 2020 والثانية بعنوان (الحمّام) والمنشورة في ثقافية الصباح ليوم الثلاثاء 4 شباط 2020. وفي القصتين نجد اهتمام القاص بإخراج وكتابة قصص تتوخى الاسلوب الذي يعتمد البساطة والوضوح والاعتماد على لغة مباشرة بعيدة عن التعقيد والالتواء. فضلا عن اتسام طريقة السرد واعتمادها على صوت السارد الذي يكاد يترسم كل تفاصيل ومقتضيات الاحداث داخل القصة.
ويمكن القول ان طريقة الوضوح والبساطة التي اعتمدها الكاتب انمار هي ليست من المثالب التي تؤدي بالقصص الى الوقوع في شرك المباشرة والسهولة الساذجة بل على العكس فقد كانت هذه الآلية في كتابة القصص لهي من عوامل النجاح التي يمكن احتسابها لرصيد الكاتب حين يحاول التميز والظهور في ميدان كتابة القصة ••
يتمفصل الفعل القصصي في قصة ( اشباح واحاديث ) على استعادة بعد اجتماعي واسري ينقلنا الى ديمومة التركيز على كيفية التركيز على تأصيل الروح الاسرية والعاطفية داخل الاسرة بعد ان اصابها التشظي وعدم الانسجام بسبب عوامل عديدة لعل من أهمها دخول التكنلوجيا الحديثة والمتمثلة بالألعاب الالكترونية التي تمتلئ بها غرفة الصغيرة والذي هو يظهر لنا بصوت الراوي حين يسرد تفاصيل همومه مع افراد اسرته المتمثلة بالأب والام والاخ الاكبر وقد اخذ السرد اسلوب التتابع الزمني حين ابتدأ بموت الاب وبعده الام وصولا الى سفر الاخ الاكبر ووفاته مع المرأة التي احبها في الخارج اذ هو سافر بحثا عن عمل يؤمن له ديمومة الحياة •
وفي هذه القصة القصيرة نجد القاص يُمسك بتفاصيل الاسلوب الذي يتداخل ما بين عالم الواقع وبين عالم يكاد يترسمه لنا البطل بعالم الاشباح بعد ان يستحضر امامه صور افراد عائلته الذين ماتوا فتبدو سيماء حضورهم حوله متقاربه مع عالم الاشباح.
وتواصلا في القراءة مع تفاصيل ما دارت حوله قصة ( الحمّام ) فنحن مع نمط كتابي يمازج ما بين اسلوب الحكي القديم والذي اطلعنا على بعض من عتبات الكتابة في كتب التراث وما بين اسلوب يتحدر من صلب واقع نكاد نتواصل معه في الكتابة بطابع الواقع الحديث والمسار المضموني لما افصحت عنه تفاصيل السرد نجده يتلامس مع مهيمنة السلطة وكيفية اللعب وتسخير الناس وانقيادهم الاعمى وتأدية فروض الطاعة والولاء لها عبر وسائل شتى تعتمدها تلك السلطة ومرتكزاتها الفاعلة في المجتمع وتبدو تلك العتبة ( الحمّام ) كدالية أصبحت تمتص كل التوجهات والبدع المبتكرة من قبل السلطة وهي تحتوي وتستحوذ على آراء الناس ومسخ تطلعاتهم وجعلهم في انقياد اسير لما تصبو اليه تلك السلطة والمتمثلة بحاكم المدينة باعتباره الامل المنشود لآمال وتطلعات اهل المدينة.
ولعل نصاعة القصة وثراء حضورها عند القراءة تكمن في طريقة الاشتغال الفني التي اتبعها القاص انمار حين جاء بفكرة الاستحمام من الاوساخ والروائح الكريهة التي تبطنت بها اجساد الناس في هذه المدينة المفترضة حتى تبدى لنا الامر وكأننا امام عالم غريب يتلفع بالغرابة والسخرية والتهكم والذي تسلسل لنا من حالة الانقياد وغياب العقل وحالة الانمساخ الشديد التي جعلتها أفانين السلطة ومبتكراتها وهي تحتوي وتهيمن على مقاليد اهل المدينة وهم يتدافعون وعبر حالات التدافع نحو الدخول في بطن الحمّام لغرض التخلص من حالة العفن والوساخة ورائحة الاجساد التي تلبست بهم في حين يخرج من هم في السلطة واعوانها من الحمّام بعد ان استحموا وتخلصوا من تلك الحالات ويخرجون بمباركة وابتهالات اهل المدينة المتجمعين حول باب الحمّام وهم بانتظار حصولهم على نظافة اجسادٍ تأكلها الاوساخ والروائح النتنة والاستغفال المرير ولعل ما يمكن لنا ونحن نتواصل مع ما يكتبه انمار رحمة الله هو هذا الكاتب يدخل الى عالم القصة القصيرة من بابها الواسع ليشكل علامة مهمة لا يمكن عدم التوقف امامها ومحاولة قراءتها وفحصها وجعلها حاضرة في ذاكرة نقد القصة في العراق.