عبد الأمير خليل مراد
تختلف المجموعة الشعرية (لك وحدك أخلعني) للشاعر كامل حسن عن مجموعته الشعرية السابقة (عثرة سنونو) من نواحٍ عديدة، إذ اعتمدت هذه القصائد التي يمكن تقسميها الى بابين: الباب الأول، وهو القصائد التي تنحو منحى دراميا، اذ يلجأ الشاعر الى تهجي لغة الصوفية ، واستبطان دلالاتها منذ العنوان حيث اشتق الشاعر عنوان ديوانه من بنية القصيدة الأولى (طوق ذراع) وهو يقول فيه (لك وحدك أخلعني) حيث يقوم بالتقاط موضوعاته من خطابات النفري وابن عربي وغيرهم، وفي اكثر من معنى تتجلى مواقف الصوفية ومناجياتهم، حيث تتبدى هذه المعاني من خلال استنطاق الشذرات الصوفية ومحاكاتها في استبدال (الأنا) بـ(الأنت) والاشتغال على هذه التبادلية ما بين الرافض والمرفوض والعاشق والمعشوق، ذلك العاشق الذي يتماهى حد الذوبان مع محبوبه، فالنفري يشير في مواقف كثيرة:
(أنا منتهى أعزائي، إذا رأوني أظمأ نوابي)
وقال أيضا:
(أوقفتني وقال لي: الدنيا سجن المؤمن، الغيبة سجن المؤمن )
والشاعر يقول:
(لك وحدك أخلعني وأقيدني مثل اسيرة
يا سيد قلقي وشرودي / من فضلك علمني اتعبد
في محرابك / بين غياب وحضور) ص27 .
وهنا لا يريد الشاعر أن يخلع محبوبه كما يوحي به النص الشعري، حيث يحاول تضليل القارئ من خلال استعمال ضمير الخطاب، حيث يشير إلى (الأنت) والضمير الآخر في أخلعني، نون النسب، وبهذه اللغة يستعيد حضوره في محراب المحبوب من خلال الغياب الذي يستجلي محطاته في أكثر من نص شعري.
كما تتنوع موضوعات القصائد في تناول قضايا عدة، فمنها ما يستبطن الهموم اليومية وهموم الإنسان الكونية الأخرى، ذلك الإنسان الذي اكتوى بالمواجع والآهات وأعباء الحياة الثقيلة وهو في ذلك يستثمر نبض المدينة وهو يعاين في أحشائها قلق المتعبين وهواجس المقهورين، إذ يلتقط من شوارع مدينته الكثير من المعاناة التي تهيمن على تفكير الشاعر حيث يقول في قصيدة (ندم):
(تمنيت أن أرى آخر موكب للربلات
يخترق أزقة المهدية
خارجا من دهاليز الجامعين
ومعرجا على سوق الحطابات
التي استنفذت كل جذوع النخيل اليابسة) ص45.
وفي قصيدة (ضجيج) وهي من قصائد التفعيلة، والتي انتهج فيها كامل حسن تفعيلة الخبب، حيث يقدم فيها صورة جوانية للحياة والموت، إذ يعمد إلى تلغيز هذا المنحى من خلال الحروف المركبة وهي حروف تنطوي على أبجدية مستقرة في الوجدان الجمعي، أبجدية التشظي داخل اللغة الشعرية حيث يقول:
(ألف لاغية، عين شاحبة، شين شائكة، قاف ممزق ) وانتماء هذه الحروف إلى كلمة (أعشق) وهذا العشق المتماثل في قطار الوقت الذي لم يبق للمرء أي سبب من أسباب البقاء، ويبدو الشاعر في هذه القصيدة بائسا ومتشائما أمام سطوة الواقع المتخم بالأحاجي والخسارات وكأنّه يبحث في هذا الضجيج اليومي عن آماله التي تطحنها حوافر الزمان يقول :
(هل لي بامرأة / تسقيني بللا من عين خرافتها /
توقظ بي لغة / ضاعت معظم احرفها / قاسية
تلك الايام ) ص67.
وفي القسم الثاني من الديوان يقدم الشاعر قصائد قصيرة حيث تميل هذه القصائد إلى (انتهاج الضربة الفنية) التي تتأسس على العنوان، إذ يلمس القارئ علاقة واضحة ما بين نهاياتها وعناوينها وتتوضح رؤى القصائد من خلال مفردة واحدة، ففي قصيدة (عاقر) وهو العقم الذي ترفضه طبيعة الإنسان، لأن العقم يعني جفاف الحياة وانقطاعها، لكنه يحاول أن يبرر هذا العقم من خلال الولادة المنكودة ، تلك الولادة التي لا تبشر بالمفازات الدنيوية، وهنا تصبح (طلقة) الحامل طلقة مجهضة، إلا أنها تسقط أيامنا الموعودة على حبل الهواء، الحبل الذي يفضي إلى الفجيعة والانكسار، ونرى القصيدة تبدأ بثلاث كلمات وتنتهي ايضا بثلاث كلمات ، وكأنه يبتغي مغادرة هذا المشهد بومضة سريعة دون الالتفات الى الاسترسال في عرض واقعة (العقم)
(كلما حكمت يطلق /اسقطت : ايامنا حبل الهواء )ص65.
ويلاحظ ان معظم هذه القصائد قائمة على سطرين أو ثلاثة أسطر، وهي بهذا التشكيل الشعري تحاول اختزال أو اختصار فكرة القصيدة واستفزاز وعي المتلقي وقدرته على استبطان هذه المقطوعات والتقاط ما فيها من هموم ومواجع.
وفي قصيدة (حوت) فإن هذه المفردة تحيل إلى (حوت النبي يونس عليه السلام) وما استقر في ذاكرتنا من حوادث وملمات بيد أن الإحالة هنا تقدم ما هو مضمر في غايات هذه القصة ومراميها، وهو يستوحي مفرداتها من القرآن الكريم (إلى حوتنا نحن) وهو الحوت الذي يريد ان يجتث وجودنا وما نصبو إليه بهذا الخواء الروحي، بعد أن أودعتنا الأيام في بطن الحوت، لكنها لم تعلمنا التسبيح ، هذا التسبيح الذي نُجِّيَ به يونس من الهلاك، وبالضد من هذه التبادلية بين التسبيح والاستغراق في الحلم الفردي، فإننا نبقى في دوامة التلاشي بعد أن قذفتنا تلك الهواجس المرة في بطن الحوت.