الهجرات الكبرى.. وخصوصية التعدد

‏تواصل ثقافية الصباح الجديد نشر حلقات من كتاب: سرقة حضارة الطين والحجر للكاتب حميد الشمـري
الحلقة السابعة
تناولنا في الحلقة السابقة، كيف ان التطور الطبيعي المتصل المتصل عبر التاريخ حيث كان مرتبطا بعناصر الماء والطين والزراعة والتجارة والفكر والفلسفة والاسطورة والدين والفن وهي الاعمدة الأساس في أركان الحضارة وجميعها كانت تسير متلازمة عبر درب واحد منذ البداية ولا يمكن فهم أو فصل أيا منها دون حساب العناصر الأخرى وكان الدين هو مصدر الإلهام والوحي للفن غاطسا في الماء متطهرا فيه مستندا على كتف الطين في جميع المراحل الحضارية.
‏لقد كان الوادي مجبرا على الانفتاح على جميع التيارات الحضارية وغير الحضارية بسبب جغرافيته ونتيجة طبيعية للاجتياحات والغزوات الخارجية التي تقوم بها الشعوب القادمة من المناطق المحيطة به مدفوعة بحاجتها للبحث عن الارض الخصيبة , وكانت تأتي بهم اطماعهم أو انهم كانوا يعانون من زيادة سكانية وموارد محدودة اوان مناطقهم فقيرة من موارد الماء والكلأ أو أصابها الجفاف والقحل بينما هو ممتلئ لحد التخمة بالأنهار الكبيرة والصغيرة والروافد والرواضع والارض الخصيبة التي كانت سببا لتنوع وازدياد الثروة الزراعية والحيوانية المدجنة منها والوحشية , فكان هذا الوادي يمثل جائزة مغرية لجيرانه الأقل رخاء المستمرين بالتدفق عليه وكانوا ينظرون بحسد إلى هذه الأرض التي تزرع سيحا وديما وتقع ضمن مناخ البحر المتوسط المتعدد الفصول وتعمل شمسها على ضمان نضج الغلات والحاصلات الوفيرة وكان الشعب السومري الساكن في الوادي الخصيب قد مال بسبب رخاء الحضارة إلى الدعة والرقة والسكينة والسلام وركن السلاح جانبا والتفت إلى جوانب العلوم والثقافة والفن والبناء والتحضر, لذلك فقد هزم بسهولة أمام غزوة الشعوب والقبائل السامية ) القوية غير المتحضرة القادمة من صحارى الجزيرة العربية مثل الاشوريين والأكديين والكلدانيين القادمين من وسطها و الآموريين القادمين من ‏شمال وجنوب بادية الشام بسبب موجات الجفاف الطويلة التي ضربت قلب الجزيرة وشمالها, وكانت بعض هذه الغزوات والاجتياحات تقضي على دول قائمة وتؤسس على أنقاضها دولا وممالك حضارية عظيمة خالدة تدوم قرونا مثل غزوة الأكديين بحدود ( 2000 ‏ ق م) الذين أسسوا أولى إمبراطوريات بلاد الرافدين ايام الملكين (شروكين وحفيده نرام سن) والآموريين الذين كانت غزوتهم قوية جدا حوالي ( 1900 ‏ق م) حيث انتصروا على سلا لتي ايسن ولارسا القويتين وجميع السلالات ألموجودة وأسسوا إمبراطورية بابل الأولى على يد الملكين سن مبلط وأبنه المشرع والفاتح العظيم حمورابي سنة 1850 ‏ق م وهؤلاء قدمت قبائلهم من جزيرة العرب وبادية الشام في بداية الألف الثاني قبل الميلاد وأسسوا في عاصمتهم بابل واحدة من أعظم الامبراطوريات والحضارات في العالم القديم والتي استمرت ( 150عاما) حيث أثمرت حضارتهم عن سن قوانين وتشريعات حمورابي المدنية التي تجاوزت شرانع سابقة أصدرها أسلافه مثل أوروانيم كينا وأورنمو ملك أور ولبت عشتار من ملوك سلالة أيسن وقوانين مدينة اشنونا في زمن ملكها (بيلالاما) وبعض هذه الشعوب اسست حضارات عظيمة مثل غزوة الآشوريين في بداية ( 3000 ‏ق م ) واستقرارهم في شمال الوادي في منطقة سهول نينوى والذين فاقوا الجميع بقوة وسرعة أمبراطوريتهم حيث استمرت بعد تأسيسها في بداية (الألف الأول ق م) أكثر من خمسمائة عام كانوا فيها المتصدرين للتاريخ وكانت بلاد الرافدين في وقتهم في اقوى حال من الارتباط والتماسك . اما الأقوام العيلامية والميدية واللولوبية القادمة من وسط الهضبة الذيرانية والكوتية والحيثية من منطقة بحيرة وان في شمال شرق تركيا الجبلية والحورية والميتانية وهؤلاء جميعا كانوا شعوبا بدانية يتحينون الفرص ويقومون باجتياح الوادي طمعا بخصبه وثرواته وكان ذلك من طبيعة وسمات تلك العصور. وكان البعض من شعوب هذه الاجتياحات تؤسس دولا وممالك تدوم قرونا ثم تختفي وتذوب دون أن تضيف ملامحا حضارية واضحة تضاف إلى حضارة الوادي . مثل العيلاميين الذين جاؤوا من عاصمتهم سوسة في إيران وأسقطوا إمبراطورية أور الثالثة في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد وانسحبوا إلى بلادهم دون أن يتركوا أي أثر حضاري حتى أن آثارهم الفنية غير موجودة ضمن ما يعثر عليه من لقى وآثار في بلاد الرافدين . وكذلك الكوتيين القادمين من جبل زاجروس الذين أسقطوا الإمبراطورية الأكدية ودمروا عاصمتها أكد ومدينتها الحضارية سبار واستمر حكمهم مائة عام تولى الحكم فيها ( 27 ‏) ملكا لكنهم إضمحلوا وذابوا بعد أن قضى عليهم ملك الوركاء (أوتو حيكال) ولم يتركوا أثرا بينا حتى أنهم لم يؤسسوا عاصمة لهم . وكذلك الحوريين وعاصمتهم ( نوزي) قرب كركوك والميتانيين و هؤلاء لم تكن فتوحاتهم أو غزواتهم ذات سيطرة مستديمة أو ‏تأثير حضاري من ثر ولم يكن لهم فن مميز عدا ماتركوه من نقوش محدودة الأشكال على الأختام الأسطوانية التي انتهى تأثير وحداتها الزخرفية بانتهائهم تاريخيا وفقدانهم لشخصيتهم وذوبانهم تدريجيا ضمن شعوب الوادي . أو مثل الكيشيين الذين قدموا من شمال غرب إيران من المنطقة المعروفة بلورستان وأسسوا مملكتهم وسط بلاد الرافدين وعاصمتها (دوركوريكالزو) عقرقوف حاليا التي تقع على أطراف بغداد و دامت مملكتهم (576) عام تقريبا ( 1730 – 1155 ق م) حكم خلالها ( 36 ) ملكا وقد إندمج الكيشيون في حضارة الوادي وأظهروا احتراما كبيرا لألهتها والاعتناء بطقوسها ومعابدها وتدل أبنيتهم الواسعة المكتشفة في عاصمتهم على مدى الرخاء الذي كانوا يعيشون فيه إلا أنهم لم يأتوا بشيء جديد يضاف إلى حضارة بلاد الرافدين عدا أسلوب تحديد الأراضي بأحجار الكودورو المنقوشة بالكتابات والاشكال البشرية والحيوانية والخرافية والتي لم تعمر بعدهم طويلا ولا يمكن اعتبارها أعمالا فنية قائمة بذاتها إنما هي نصب بسيطة تؤدي واجبا غرضيا كعلامات حدود وضعت لغايات عملية تسجيلية ويختلف نحتها وحجمها باختلاف المناطق ومساحات الأراضي المتحاددة ومالكيها . وقد اخضعتهم الحضارة الرافدينية لسطوة تاثيرها حيث ذابوا تماما ولا نجد لأثارهم الحضارية صدى أو بقايا أسلوب أو تأثير فيما تلاها من حضارات . وبعض هذه الشعوب كان مجيئها لبلاد الرافدين عبارة عن غزوات بربرية هدفها السلب والنهب مثل الميديين الذين جاءوا من عاصمتهم أكبتانا وسط إيران وساهموا بإسقاط الإمبراطورية الآشورية وتدمير عواصمها أشور ونينوى وكلخ (النمرود) ودورشروكين ولم يمكثوا في الوادي أو يتركوا أي أثر لهم سوى ما دمروه . وكان سبب عدم بقانهم في الوادي يرجع لعدم رغبتهم بالصدام مع حلفائهم البابليين ولأن بابل الكلدانية الفتية القوية قد احكمت سيطرتها على جميع مساحة بلاد الرافدين . وكان البعض من تلك الشعوب الغازية قد وجدت نفسها بمواجهة حضارة قوية صنعت تاريخا راسخا متمكنا من جميع نواحي ومقومات الحياة العسكرية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والفنية وتسبقهم بمراحل لا يستطيعون مجاراتها أو الإضافة اليها. ولم يكن بمقدورهم مجابهة التحدي لبناء حضارة جديدة تضاهي وتنافس حضارة بلاد الرافدين ولم تجد هذه الشعوب مكانا لها تحت الشمس ولم تستوقف التاريخ وهو لم يستوقفها فنجدهم ينساقون وراء تأثير قوة خفية لا يستطيعون الامساك بها . فيستقرون في الوادي الذي سرعان ما تحتويهم حضارته فيندمجون ويذوبون ويختفون تدريجيا في التركيبة السكانية المتنوعة إراديا أو لا إراديا ضمن مرجل واسع وكيان عظيم تتم فيه عملية تلاقح هذه الشعوب التي وجدت نفسرها تعيش في محيط واحد يتسع لها جميعا واصطبغت معهم بصبغة رافدينية واحدة افرزت حضارة تميزت بتنوعها
‏الثقافي وثرائها الفني الفريد وخصوصية تفردت بها وهي (خصوصية التعدد) للوجوه والاساليب فأصبحت شعلة ملتهبة تشع وتفيض بنورها على كل ما جاورها من بلدان وشعوب.
‏ ( الاقوام السامية – تسمية اطلقها سنة 7797 ‏العالم الالماني شلوزر على الشعوب التي تتكلم عائلة لغوية واحدة (العربية . العبرية´ الكنعانية. الآرامية).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة