عندما نتفق على طبيعة ونوع المنابر الاعلامية وعلى رأسها الفضائيات، التي طفحت على مسرح احداث عراق ما بعد زوال النظام المباد، والغاية من وجودها وفقاً لاجندات مصادر التمويل؛ يكون بمقدورنا الشروع بمشوار “الألف ميل” لفك طلاسم ما يهبط على تضاريسنا من سلالات الـ “غريب امور عجيب قضية”. هناك الكثير من الممارسات والنشاطات المريبة، والتي يمكن رصدها من دون الحاجة الى ذكاء خارق، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ المعايير التي تضعها تلك الاقطاعيات الاعلامية لاختيار نوع الضيوف، والتي ارتقت مؤخراً ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، الى اختيار “زعامات” للتظاهرات، عبر تسليط الضوء على شخصيات ما والترويج لها بوصفها لا ممثلة لها وحسب، بل هي مشروع مرشح لموقع رئاسة الوزراء كما حصل مع العديد من تلك الدمى. لقد عودتنا تلك المنابر ولا سيما رأس رمحها الفضائيات، على حذاقتها ودقتها في الانتقال بخطواتها، وهي بعيدة عن البراءة في رسم خارطة طريقها وخياراتها، كما ان غالبية سدنتها هم من حطام ما اورثته لنا الشبكات الاخطبوطية لما عرف بـ “جمهورية الخوف” من مخلوقات معطوبة لا امل في شفاءها، ولكم ان تتخيلوا ما ينتج عن كل ذلك عندما يتخصب مع ما تلفظه لهم بورصة تبيض الاموال داخل البلد وعند بلدان دول الجوار وما بعدها.
عندما نتفق على ذلك، يكون بمقدورنا التعاطي مع خياراتهم وبضائعهم بشكل مغاير، نتجنب فيه ما رسموه من سيناريوهات وخطط تمهد الطريق لجيل جديد من “الزعيم-الدمية”، أي ان اهتمامهم هذا يساعدنا على تجنب ما اجتمعوا عليه من مخلوقات وخطابات، ويساعدنا بالتالي على وعي جانب مهم لمشهد يزداد تعقيدا والتباساً يوما بعد آخر. ما كان بمقدور هذه الفضائيات وما يتجحفل معها من صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، التعاطي بكل هذه الخفة والاستهتار مع مثل هذه القضايا الحيوية، لولا اطمئنانها لمستوى الوعي وضحالته وما يرافق ذلك من استعداد لدى شريحة واسعة من المتلقين، لتلقف ما يلقى اليها وسط اجواء الغيبوبة والامية والتشرذم المهيمنة على تفاصيل المشهد الراهن. ان تطفل وسائل الاعلام على مثل تلك الملفات، يكشف عن حقيقة ما وجدت من اجله، وهي نشاطات تتنافر والوظائف الفعلية والمهنية للاعلام.
كل من يعرف شيئا عن بديهيات النشاط السياسي والاجتماعي، يعرف جيداً كم هي معقدة عملية ولادة وتبلور القيادات السياسية والشعبية والمهنية، وتاريخ العراق الحديث قبل سحق النظام المباد لكل اشكال التعددية السياسية والفكرية، حافل بامثلة عديدة على ذلك. كل هذا وفضائيات الفتح الديمقراطي المبين، تقدم لنا هذه الصيرورة الشائكة والمريرة لمفهوم “الزعامة” على شكل كبسولات جاهزة أو وجبات مسلفنة، بعد أن مهدت لذلك بسيل من قذائفها الدخانية والديماغوجية والعناوين المجانية، التي حولت امكانية “كيف تصبح زعيماً في عشرة أسابيع” الى واقع في بلد ينطبق عليه قول الشاعر دعبل الخزاعي (اني لافتح عيني حين افتحها/ على كثير ولكن لا أرى احدا). حيث الشروط التاريخية والموضوعية التي اشرنا اليها مرارا وتكراراً، جعلت من امكانية امتلاكنا لزعامات وطنية متفق عليها؛ أمراً عسيرا. في بلد وصلت فيه أعداد الاميين الى ما يقارب ثلث عدد سكانه، مع اعداد لا تقل عن ذلك من انصاف المتعلمين واشباه المثقفين؛ لا يستغرب فيه وجود مثل هذه الفضائيات وجرأتها على تمرير مثل هذه الدمى البائسة…
جمال جصاني