كتاب «فكرة الثقافة».. ما نحيا لأجله

مصطفى ديب*

يُعيد تيري إيغلتون في كتابه «فكرة الثقافة» (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2019) ترجمة ثائر ديب؛ الثقافة كمفهوم إلى أصلها اللغويّ الذي تكون عنده مفردة مشتقّة من الطبيعة وليس العكس، لا سيما وأنّ أحد معانيها الأصلية هو «Husbandry»، أي تولّي النمو الطبيعيّ بالعناية والرعاية، ممّا يعني أنّ فكرة الثقافة مستمدّة من العمل في الزراعة والفلاحة. ولم يصبح هذا اللفظ تجريدًا قائمًا بذاته إلّا بعد أن أُسقطت عنه ما علق به من نعوت مثل (Moral/ أخلاقيّ) و(Intellectual/ فكريّ).
يرى الناقد البريطانيّ أنّ كلمة «Cultural» كانت تشير في البداية إلى عملية مادّية تمامًا، قبل أن تنتقل إلى شؤون الروح ومسائلها. بالإضافة إلى أنّ الكلمة التي تستشفّ انتقالًا تاريخيًا بالغ الأهمية والخطر، تستبطن أيضًا عددًا من القضايا الفلسفية؛ أسئلة الحرية والحتمية والثبات والفاعلية والتغيير والهوية والتعيين والخلق.
الثقافة أيضًا فكرة واقعية من الناحية المعرفية، تفيد بأنّ هناك طبيعية أو مادّة خامًا مستقلّة عنّا، ولكنها تنطوي أيضًا على بعد بنائي، إذ لا بدّ لهذه المادّة الخام أن تكون قد بنيت على هيئة لها دلالاتها بالنسبة لبنيّ البشر. وبالتالي، ليست المسألة مسألة تفكيك التضاد أو التقابل بين الثقافة والطبيعة، وإنّما مسألة إدراك أنّ مصطلح «الثقافة» هو أصلًا مثل هذا الضرب من التفكيك. فالوسائل الثقافية التي نستخدمها لتغيير الطبيعة، هي ذاتها مستمدّة منها، بمعنى أنّ الطبيعة تنتج الثقافة التي تُغيِّرها.
الطبيعة إذًا مسؤولة عن إنتاج وسائل تخطّيها. فإذا كانت ثقافية دائمًا بمعنىً ما، فإنّ الثقافات مبنية من التبادل الدائم مع الطبيعة: العمل. وإذا كانت الثقافة تعني في الأصل رعاية النموّ الطبيعيّ، فإنّها تُشير إلى كلٍّ من التنظيم والنموّ العفويّ معًا. فالثقافي هو ما يُمكن لنا أن نُغيِّره، ولكن للمادّة الخام التي تُغيَّر وجودها المستقل الذي يسبغ عليها شيئًا من مقاومة الطبيعة وعنادها.
تُشير فكرة الثقافة إلى نوع من الرفض المزدوج للحتمية العضوية من جهة أولى، ولاستقلال الروح من جهة ثانية. فهي ترفض الطبيعة والمثالية. وإذا كانت الثقافة تُغيِّر هيئة الطبيعة بشكلٍ ما، فإنّها أيضًا ذلك المشروع الذي تضع له الطبيعة حدودًا صارمة.
الثقافة ذاتها بحسب مؤلّف «أوهام ما بعد الحداثة» تنطوي على توتّر بين الصانع والمصنوع وبين العقلانية والعفوية. وتُلمّح هذه الكلمة إلى التقابل السياسيّ بين التطوّر والثورة، فالأوّل عفوي وعضوي، بينما الثانية صنعة إرادية. وبالتالي، كيف يمكن الخروج من هذا التناقض المبتذل؟ يعود إيغلتون هنا إلى فريدريش نيتشه للإجابة عن السؤال، ذلك أنّ الفيلسوف الألمانيّ رأى في العمل الفنّي ممارسة يمكنها أن تُفكِّك التضاد وتدفع بالأضداد المتقابلة القديمة والرثّة إلى الحدّ الذي لا يُمكن فيه الفصل بينها.
بمقدور كلمة «الثقافة» أن تُشير إلى الانقسام في داخلنا بين ذلك الجزء يثقّف ويهذّب، وبين كلّ ما يشكّل فينا المادّة الخام لمثل هذا التهذيب، الأمر الذي يجعلها مسألة تغلّب على الذات بقدر ما هي مسألة تحقيق للذات، لأنّها إذا احتفت بها عمدت إلى ضبطها. وبمقدورها أيضًا أن تنقل الفرد من الطبيعي إلى الروحي، بمعنى أنّنا إذا كنّا كائنات ثقافية، فإنّنا كذلك جزء من الطبيعة، نشبهها في أنّنا ينبغي أن نُقيّد مثلها في هيئة أو شكل، ونختلف عنها في قدرتنا على فعل ذلك لأنفسنا.
التهذيب المقصود لا يقتصر على كونه شيئًا نفعله لأنفسنا، فقد يكون أيضًا شيئًا يفعل لنا، من الدولة مثلًا، ذلك العالم المتعالي الذي يُمكن فيه التسوية بين انقسامات المجتمع المدنيّ الذي يعيش أفراده في حالة خصومة وعداء، والذي لا بدّ أن يكون فاعلًا ومؤثّرًا فيه بما يكفي للتخفيف من أحقاد هذا المجتمع. وهذه العملية هي ما يُعرف بالثقافة التي تُشير إلى الحاجة إلى إقامة الحضارة على أساس التهذيب أو التثقيف، وتؤكّد على ضرورة أن نكون بشرًا قبل أن نكون مواطنين.
يرى صاحب «فلسفة الفكاهة» أنّ إعلاء الثقافة على السياسة مفاده أن تتحرّك الأخيرة ضمن بعد أخلاقي عميق، بالاعتماد على موارد التنشئة والتربية وتحويل الأفراد إلى مواطنين يشعرون بالمسؤولية ويتّصفون بالاعتدال، فما تفعله الثقافة هنا أنّها تقطّر إنسانيتنا المشتركة من ذواتنا السياسية المنضوية إلى نحلٍ وشيع، في إشارة إلى ضربٍ من الانقسام على الذات، وضرب من شفائها الذي يصقل ذواتنا الدنيوية بنوعٍ من الإنسانية المثالية.
لا يمكن القول إذًا أنّ الثقافة منفصلة عن المجتمع المدنيّ، ولكنّها أيضًا لا تتطابق معه. يستعيد هنا إيغلتون معنى الثقافة عند فريدريش شيلر بما هي الآلية الحركية لما سيعرف فيما بعد بالهيمنة، أي قولبة الذوات البشرية تبعًا لحاجات نوعٍ جديد من النظام السياسيّ. ولكي تفعل الثقافة ذلك، لا بدّ أن تعمل كنوعٍ من النقد المحايث أو التفكيك. وهو كان قائمًا قبل العصر الحديث، حيث كان من الممكن النظر إليها على أنّها نقد مثالي وقوّة اجتماعية واقعية. أمّا بعده فقد باتت إمّا حكمة رفيعة، أو سلاحًا أيديولوجيًا. وإمّا شكلًا منعزلًا من النقد الاجتماعي، أو عملية حبيسة الوضع القائم وواقعةً في شراكه.
ينطوي تاريخ كلمة ثقافة بحسب المؤلّف على ثلاثة معاني حديثة كبرى، بالإضافة إلى جذورها الأصلية الممتدّة من تربة العمل في الريف: شيئًا قريبًا من (Civility/ كياسة)، ثم مرادفًا لكلمة (Civilization/ حضارة) التي تساوي بين آداب السلوك والأخلاق، وتشير إلى كونها التهذيب الاجتماعي في سيرورته التدريجية، والغاية التي تتكشّف عنها هذه السيرورة.
فيما بعد، ستميل الثقافة عن كونها مرادفًا للحضارة لتتحوّل إلى ضدٍّ لها، وهو ما اعتبره إيغلتون انحراف دلالي خطير يلفت الانتباه إلى انحراف تاريخي بالغ الأهمية والخطر. ويمكن القول إنّ بداية الميل حدث حين اكتسبت الحضارة صدىً إمبرياليًا كان كافيًا لتسويد صفحتها، الأمر الذي استلزم وجود كلمة أخرى للإشارة إلى وجوب أن تكون الحياة الاجتماعية على غير ما هي عليه الآن، وهنا تمّت الاستعانة بكلمة «Culture» التي غدت اسمًا للنقد الرومانسيّ ما قبل الماركسيّ للرأسمالية الصناعية المبكّرة.
تختلف الثقافة عن الحضارة في كونها أمرًا مثقلًا بالاحتمالات، روحيًا ونقديًا إلى الحدّ الذي لا يتيح لها أن تطمئن إلى العالم، عكس الحضارة ذات الطابع الاجتماعي الأنيس، والتي كلّما كانت نهابة ومغشوشة، دفعت بالثقافة إلى أن تكون موقفًا نقديًا. أضف إلى ذلك أنّ ابتعاد الحضارة عن المنطق كان أحد أسباب ظهور الثقافة، الأمر الذي يؤكّد وجود حالة نزاع بين المصطلحين، يراه إيغلتون نزاعًا بين التراث والحداثة، ولكنّه أيضًا نزاع زائف باعتبار أنّ نقيض الثقافة هو فوضوية كانت الحضارة ذاتها قد تمخّضت عنها.
إنّ أوّل تهجئة مختلفة لكلمة ثقافة بحسب مؤلف «كيف نقرأ الأدب» هو تهجئتها على أنّها نقد مناهض للرأسمالية، وكانت ثان تهجئة مختلفة هي تضييق الفكرة بحيث تشير إلى طريقة حياة كلّية، مع وصفها بصيغة الجمع، وإضفاء طابع التعدّدية عليها. أمّا ثالث تهجئة فهي تخصّصها التدريجيّ بالفنون، حيث باتت تشتمل على النشاط الفكري بشكل عام، ولكنّها في المقابل يمكن أن تتخفّف بحيث لا تطول سوى تلك المشاغل التي تزعم أنّها تخيلية أكثر من سواها. بمعنى أنّه لم يعد ممكنًا اعتبار العلم والفلسفة والسياسة والاقتصاد صنوفًا من الإبداع والتخييل.
يُخبرنا تيري إيغلتون أنّ الثقافة تتعارض أشدّ التعارض مع التحزّب، بحيث يبدو الالتزام دليلًا على الافتقار إلى التهذيب والثقافة، ممّا يجعل من الأخيرة ترياقًا مضادًّا للسياسة. وفي الوقت الذي تكون فيه الثقافة نقدًا للرأسمالية، قد تكون أيضًا نقدًا لما تقتضيه مناهضة الرأسمالية من ضروب الالتزام، الأمر الذي يجعل من السياسة أحادية الجانب شرطًا يتحقّق من خلاله مثل الثقافة الأعلى المتعدّد الجوانب، بحيث يتطلّع طالب العدالة بموجبه أبعد من مصالحه الضيّقة.
يخلص إيغلتون إلى القول بأنّ الثقافة ما عادت وصفًا لحال المرء أو ما هو عليه، بل لما يمكن أن يكون عليه، أو لما اعتاد أن يكون عليه. ومعنى ذلك أنّ فكرتنا عن الثقافة تقوم على اغتراب حديث لما هو اجتماعيّ عمّا هو اقتصادي، وللمعنى عن الحياة المادّية. ومثل هذا التباعد أو الاقصاء بين الثقافة وإعادة الإنتاج المادّية، لا يمكن أن يحدث إلّا في مجتمع يبدو وجوده خاليًا من القيمة، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها لمفهوم الثقافة أن يغدو نقدًا للحياة.

  • كاتب سوري

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة