الرواية كاختراع

عارف حمزة *

كثيرة هي الحالات التي ادعى فيها كاتب بأخذ فكرة رواية له من قبل كاتب آخر، واشتعلت الكثير من المعارك الإعلاميّة بسبب ذلك، في طريق إثبات كلّ واحد منهما بأنّه الأسبق في نشر روايته قبل نشر رواية الآخر، ووصلت بعض الحالات إلى المحاكم، ليعتمد بعضهم على «إيصال» مؤسسة البريد لإثبات الأسبقية في إرسال الرواية للناشر، أو بأنّه أرسل مخطوطته قبل نشر رواية الآخر.
هذا الأمر لا يخصّ فقط العالم العربي، بل كلّ العالم، وإن العالم العربي لديه ميّزة يتفوّق بها على غيره؛ وهي عدم وجود قوانين جيدة ونافذة لحقوق الملكيّة الفكريّة. إضافة إلى أنّ لا وسائل جيّدة في الإثبات، مع ميوعة حالة القضاء في العالم العربي وفسادها.
حالات كثيرة شهدها العالم العربي، لكنّها لا تصنع تلك الضجة والنتائج التي يصنعها في العالم المتقدّم. فالقارئ العربي لا يعرف لحد الآن إن كانت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي هي صاحبة رواية «ذاكرة الجسد» أم كاتب آخر، بعد الضجة الشهيرة التي اندلعت عقب رواج الرواية وطبعها لعدّة طبعات.
وفي العام الماضي شنّت الروائيّة السوريّة لينا هويان الحسن هجوماً على رواية «الموت عمل شاق» للروائي السوري أيضاً خالد خليفة، بأنّ خليفة قد أخذ فكرة روايته، التي تُرجمت لعدّة لغات، من رواية لها. فردّ عليهما أحد الصحافيين بأنّ كليهما لا يملكان فكرة روايتيهما؛ لأن فكرة روايتيهما معاً مأخوذة من رواية «بينما أرقدُ محتضرة» للروائي الأميركي الشهير وليم فوكنر (1897 – 1962)!!. وقبل أيام عادت لينا هويان الحسن، من خلال حسابها على مواقع التواصل الاجتماعي، لاتهام خالد خليفة بسرقة فكرة روايتها «ليست رصاصة طائشة تلك التي قتلت بيلا» ونشرها من خلال روايته الأحدث «لم يُصلّ عليهم أحد»! والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر لهذا العام، وطالبت أعضاء لجنة الجائزة، وكذلك القرّاء، بالفصل في مَن منهما سرق من الآخر فكرة الرواية!.

خصوصيّة الرواية
تختلف الرواية عن الشعر في أنّ الشعر من الممكن تشابهه لدرجة الظنّ بوجود «آباء» كثيرين لنصّ واحد، كما أنّ الشعر ضيّق لدرجة أن حدّد النقاد سابقاً مواضيعه. ولكن الرواية أوسع، ويجب ألا تحمل ذلك التشابه مع أعمال أخرى لدرجة يُمكن القول عنها بأنّها «اختراع»، وتشابه روايتين أو أكثر يُمكن أن يؤدي إلى فضيحة ما يُسمى السرقة.
المسألة لا تتعلق بشكل الكتابة، فهو تعرّض ويتعرّض للتجريب طوال الوقت، ولكن في الفكرة أو الموضوع الذي يبني الروائي عمارة روايته عليها. الرواية لا يُمكن إلا نسبها إلى صاحبها «المخترع»، مثل كل الروايات العظيمة التي كتبت خلال الزمن الطويل.
بالطبع هناك مواضيع أيضاً للرواية، ولكن لا يُمكن تحديدها. وإذا أخذنا الروايات التي تحدثت عن الديكتاتوريات في أميركا اللاتينيّة، سنجد أن موضوعها واحد تقريباً، ضمن التفاصيل الكثيرة لذلك الموضوع الضخم، ولكن تبقى روايات غارسيا ماركيز تختلف عن روايات إيزابيل الليندي وأستورياس ويوسا.. وهذا يقودنا إلى «أسلوب» الكتابة». فالأسلوب يتعلّق بكاتب النص، وهي الميزة الثانية للعمل الروائي، والميزة الأولى للروائيّ، والكاتب بشكل عام.
في العالم العربي أيضاً لا تشبه روايات غالب هلسا ما كتبه سابقاً نجيب محفوظ، رغم أنّ الشخصيات، عند كليهما، تبدو وكأنها تتنفس نفس الهواء، ولا روايات حنا مينه وعبد الرحمن منيف أو إبراهيم الكوني أو فواز حداد وغيرهم.

جوائز ضد فنية الرواية
استسهال الكتابة من قبل الكثيرين، وملاحقة مواسم الجوائز، دفع وصف التشابه إلى المقدمة، التشابه الذي تبنيه «الثرثرة» في كثير من الأحيان. فمن خلال مراجعة الكثير من الروايات الجديدة، وخاصة من الأسماء الجديدة، أو التي لمعت خلال العقد الأخير، نجد أنّ الثرثرة صارت ميزة مشتركة بينها. ويظنّ بعض أولئك بأنّ «الوصف» وزيادة عدد الصفحات هو المزيد من الثرثرة، آخذين أعمالهم الفنية إلى سجن «الروايات الاستهلاكيّة».
وصول روايات استهلاكيّة إلى قوائم الأكثر مبيعاً ليس أمراً مستغرباً؛ فالاستهلاكيّة تحتاج لصحافيين «مدّاحين» ويأخذون، ويا للأسف، دور النقّاد الذين من واجبهم شرح المصائب التي تُحدثها تلك الأعمال بعقل القارئ، وبتطور أمّية فن الكتابة في العالم العربي.
وليس أمراً مستغرباً فوز رواية «عادية» أو «استهلاكية» لجائزة من الجوائز التي صارت كثيرة في العالم العربي، فنحن وصلنا إلى ذلك الزمن الذي يتحسّر فيه كاتب وبشكل علنيّ على عدم تجاوزه للقوائم الطويلةّ!! أو يُهدّد جائزة حتى قبل صدور نتائجها، لكي يُدير العيون إلى روايته. وهذا ما يجعلنا نفكر بالمدى الذي وصل إليه تطوّر فئات كتّاب الرواية، وليس تطور الرواية نفسها.
إنه أمر مثير للتفكير عندما نجد أن روائياً أصدر سبع روايات خلال سبع سنوات، وصار عدد الروايات هو الأهم، بغض النظر عن تشابه تلك الأعمال مع بعضها البعض، أو مع غيرها. مع أن ذلك قد يُشبه «قيء» الكتابة لا أكثر ولا أقل.
من أين جاء هذا الكاتب بهذه الشجاعة؟ في الوقت الذي كانت رواية ما تحتاج لسنوات قبل إخراجها من مجزرة المراجعة والإضافة والمحو والتكثيف، وعيش شخصيات العمل الروائي، بل والوقوع تحت تأثيرها، مثلما حدث لماركيز، الذي ظلّ أياماً لا يعرف، أو لا يملك الشجاعة، في إنهاء مصير بطله في «مائة عام من العزلة». وعندما نزل من غرفة الكتابة حزيناً في إحدى الليالي، نظرت إليه زوجته مرسيدس من كرسيها في الأسفل، وسألته: هل مات؟.
إن ملاحقة الجوائز، وإرضاءها، وقبل ذلك إرضاء الغرور السيء السمعة للنفس الداخليّة التي لها علاقة بالتسلّق قبل فنّية الكتابة، ربما ما عاد عيباً كبيراً في هذا الزمن البائس، طالما أن العمل الروائيّ يبقى مخلصاً للفن والخصوصيّة وبهجة القراءة.
ولكن علينا الاعتراف بأنّ هناك مَن يكتب من أجل الفوز بجائزة ما، وهو يكتب على أساس شروط تلك الجائزة. وتذهب به الثرثرة ليظنّ نفسه في مصاف الأدباء الذين فازوا بجوائز قبله، وكأنّ كتابة الرواية هي نيل الجوائز فحسب، في زمن القرّاء الاستهلاكيين والنقاد الاستهلاكيين والكتّاب الاستهلاكيين.
وإطلاق وصف «اختراع» على الرواية هو بالتأكيد الذي دفع غابرييل غارسيا ماركيز لتمنّي كتابة رواية «الجميلات النائمات» التي «اخترعها» ياسوناري كواباتا، لأنّه ببساطة يعرف ما معنى أنّ عملاً في هذه السوية العالية لا يمكن تكراره مرّتين، في الوقت الذي يمكن أن تجري عشرات الروايات للتشبّه بها. وهو الاختراع الذي يلمع في مقولة ماريو فارغاس يوسا الشهيرة: «لا يُمكن لأحدٍ أن يُعلّمَ أحداً الإبداع».

  • شاعر سوري يقيم في ألمانيا

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة