علي حسن الفواز
يظل سؤال الكتابة هو الأكثر حضورا وفاعلية، لاسيما ما يتعلق بالاستعمال الثقافي، إذ تحوّل عند علماء الالسنيات الى مشغل فائق الخطورة، يُعنى بمفاهيم التواصل التي حددها دوسوسير، وشكلوفسكي في بداية القرن الماضي، لكن ما حدده تشومسكي يظل هو الاخطر، لأنه يزاوج صناعة الرسالة مع صناعة النص الجمالي/ المعرفي عبر أقنوماته الستة، وهو مادفع غريماس لإختصارها، لكي تكون أكثر تأثيرا، وأكثر تعبيرا عن ماهيات التحوّل في اللغة عند لحظتها كتابتها، والذي يعني وضع المادة اللغوية المكتوبة تحت سلطة القارئ، بوصفه المُفسّر والمُؤول، والذي عبّر في جوهره عن التحولات الكبرى للحضارات والمدن، مثلما اعتمدته الرسالات السماوية التي تَعني وجود الآخر، المؤمن المريد، والمارق الذي يحتاجه لكي يُعاد الى السياق، والى استعمال الرسالة وتوظيفها..
الكتابة في هذا السياق تعبير عن حيوية التفكير، وعن الاشهار الحقيقي لمحمولات هذا التفكير ومكوناته ومفرداته، اي انها ممارسة في الكشف عن عوالمه وسرائره ولغته، وهو ما يمنحها قوة تعبيرية، او يضعها في سياق فكرة البيت الانطولوجي الذي تحدث عنه هيدغر كثيرا..
هذا التوصيف هو ما يجعل الثقافة المحلية بمحمولاتها ومفرداتها ورموزها اكثر المكونات تعريفا بموجودات البيت الثقافي اللغوي/ الشعري/ السردي/ البصري، والبيت الوجودي.. اذ تمثل فكرة التعرّف كشفا للراسب اللاوعي في الكتابة، وتماهيا مع تبديات وجودها في الواقع والحياة وفي اثراء وأنسنة المحتوى اللساني الدلالي والتداولي.. ولعل كتابات نجيب محفوظ الروائية دليل على فعالية توظيف البيئة والمتخيل الاجتماعي والسيرة، فضلا عن استغراقها في كشف العلاقات الاجتماعية في المكان المديني، وفي التعبير عن تمظهرات الشكل الاجتماعي والعمراني والمعيشي، وكذلك التقاط مفردات الناس في مدينة ساحرة وشعبية مثل القاهرة وضمن الانخراط في سياق سردي فاعل، وهذا ما اعطى لرواياته حضورا انسانيا وتاريخيا وتعريفيا، واسهم من خلالها في التعرّف على صور وتفاصيل هذه المدينة بوصفها الواقعي او التخيلي السردي. وكذلك العديد من الكتابات الروائية والقصصية العراقية بدءا من غائب طعمة فرمان الذي استعاد المكان البغدادي بوصفه ذاكرة ووجودا، وانتهاء بمحمد خضير وفاضل العزاوي اللذين يستعيدان المكان بوصفها نصا سحريا، فضلا عن التقاط الكثير من خفايا عوالمها ويومياتها الصراعية والمهمشة، وكذلك الكتابات القصصية لعبد الملك نوري الذي زاوج بين المتخيل الشعبي والواقعي، واعطى لمفهوم الواقعية النقدية مستوى من الاشتغال السردي بكل مرجعياته ووظائفه، واحسب ان الكتابات القصصية والروائية لفؤاد التكرلي تمثل الارهاص العميق للشخصية البعدية بكل محمولاتها الصراعية والعلائقية، ولعل روايته(الرجع البعيد) تمثل اكثر الروايات العراقية اقترابا من السسيولوجيا الصراعية للشخصية البغدادية، وملامسة فواجعها في ضوء اصطدامها بالمهيمنات السياسية القامعة، والتي بدت وكانها المجس السردي الذي فجّر مكنونات الشخصية لتكشف عن رهابها الداخلي، وعن محنة وجودها ازاء مهمة القمع المركزي الذي يصنعه رعب السلطة. ونجد ايضا في كتابات غانم الدباغ لاسيما في روايته الرائدة (ضجة في ذلك الزقاق) اضطراب الشخصية المثقفة وهي تعيش مواجهة محنتها مع الاخر السلطوي، اذ ينعكس تشوه المعطى السياسي السلطوي على تشوه الشخصية والكشف عن هشاشتها وخوائها الداخلي، وصولا الى كتابات علي بدر، تلك التي اسهمت في تقديم تمظهرات سردية لمظاهر الصراع التي تعيشها حيوات ضاجة في المكان المحلي، من خلال الكشف عن موجهات هذا الصراع، وتعالقها بانماط معيشة شخصياته وفي توظيف لهجته المحلية، وبطريقة اغنت النص من جانب، واعطته نوعا، عبر اصطناع نسق صراعي يقوم على استعادة الوثيقة والتاريخ واليوميات، وادراجها في سياق سردي يتضح فيه الكثير من المستويات الصراعية، فضلا عن انشدادها الى صورة من الحميمية التي تعطي للشخصية هويتها في المكان، وفي ان يملك خصوصية صراعية تضع الواقع في سياق ثقافي واقعي وسياق سردي اكثر اثارة واكثر تفاعلا.. وكذلك يمكن الحديث بشكل استثنائي عن تجربة الشاعر بدر شاكر السياب التي اسبغت على المفردات المحلية في بيئته المائية والواردة في قصائده نوعا من التسحير الشعري، والاسطرة التي جعلت هذه المفردات تكتسب بعدا عالميا وانسانيا، لانها تتمثل روح الانسان واسئلته الوجودية، والتصاقه بعوالمها ويومياته الدافقة، اذ تحول بويت الى نهر اسطوري، ونخيل البصرة الى نخل كوني، ووفيقة الى امراة عابرة للاسماء وشنانيل ابنة الجلبي الى مكان مشحون بالسحر والتعالي..