أحمد الناجي
يقف ناجح المعموري اليوم، وهو في عز الشباب على أبواب النصف الثاني من العقد السبعيني، باقتدار منجزه الإبداعي المبهر واللافت وسط طليعة المثقفين المتصدرين للمشهد الثقافي العراقي والعربي، بوصفه مفكراً يسعى الى تشييد مشروع معرفي وثقافي. ولا يختلف اثنان حول فرادة الدور البارز الذي تجلى في مشروعه المهتم بتاريخ الحضارات البدائية والأساطير، لاسيما ما هو مسكوت عنه في مهادات تكوين الثقافات الإنسانية البكرية.
تأتي منجزات المعموري البحثية في طليعة الدراسات العربية الحديثة التي عنيت بناحية التشابك القائم بين ميثولوجيات الشرق (العراقية والمصرية والكنعانية)، فقد سعى الى تسليط الضوء نحو موروثنا الأدبي، وإنهمّ متصبراً في استجلاء العلاقة المتداخلة مع النصوص التوراتية المولّدة، بما يفضح زيف ما هو منتحل، يتعقب بدقة ما هو مستعار منه، وما جرى تذويبه في الموروث التوراتي الذي يخفي العديد من الأحلام السياسية والأقنعة الدينية المتعالقة بانسجام تام مع الرؤية الغربية.
وأود في البدء التنويه الى أن كلمات هذه الورقة لا تعدو أكثر من انطباع عن أحد وجوه هذا المثقف الموسوعي، كما ويقتضي بي القول والتذكير بأنني لست مشغولاً بالانحياز الى ناجح بقدر التعبير عن انبهاري بما توفر لي الاطلاع عليه، والمتمثل في أحد انجازاته الثقافية الذي ينطوي على موقف فكري وسياسي ناصع، وأجد من المناسب هنا التطرق اليه بوصفه نقطة مضيئة في مشوار المعموري البحثي بوجه خاص وللثقافة العراقية عموماً، فقد تصدى بشجاعة ومسؤولية خلال فرصة ثقافية سنحت له أثناء وجوده في الأردن قبل عشرين سنة، وعلى وجه التحديد سنة 2000، حينما طلب منه مدير عام الدار الأهلية الأستاذ (احمد أبو الطوق)، أن يكتب مقدمة لكتاب كان بعنوان (شمعون بيريز، مستقبل إسرائيل، حوارات مع روبرت ليتل، ترجمة: محمد النجار)، والكتاب عبارة عن حوارات طويلة مع شمعون بيريز قام بها الروائي الأمريكي (روبرت ليتل).
والشيء المثير للدهشة هو أن آراء ناجح الواردة في الكتاب المذكور والتي لاقت استحساناً واهتماماً واسعاً في الأردن، للأسف مرت في العراق مرور الكرام، ولم تجد أذناً صاغية في ذلك الحين، لا في الساحة الثقافية ولا حتى الإعلامية، دون أن يغيب عن بالي هنا الإشارة الى أن الناقد جاسم عاصي قد ذكر هذا الموضوع في كتابه (أسئلة الثقافة والمعرفة)، اذي أصدره عن ناجح المعموري سنة 2015، في حين تبدى الاهتمام بما كتبه ناجح في الكويت بمقال نشرته جريدة الوطن سنة 2003، وتصديه الى الاشتغال في مناطق وعرة وخطيرة، وكان على قدر المسؤولية، وورد فيه ما يفيد أن الداهية بيريز أستطاع التحكم بالحوار مع الصحفي الأمريكي من خلال الخبث، والذكاء، والثقافة العالية، حيث تنقل من منعطف إلى آخر دون أن تعثر قدمه، وكان ذكاؤه يقيه في هذا المسار من الارتطام بالمواضع الخطرة، ذلك لأن الخبث دهاء، والدهاء خلاص من المواقف المحرجة، لاسيما حين يكون الزوغان مغلفاً بالكذب وفق النبرة الدبلوماسية. وإزاء الاطروحة الملفقة كلها كان لناجح المعموري حضوره، وإزاء مكر التاريخ كان له موقف مشرف، حينما وقف نداً للند بالكلمة في مواجهة أحد رموز الاحتلال الصهيوني، متصدياً لمرتكزات الاستعمار الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية، فكتب مقدمة جاءت في مفتتح ذلك الكتاب، تنطوي على دراسة مركزة، متخطياً حدود التوجس، تمثلت في مواجهة ما بين الظنون والحقائق، بغية تقديم صورة تامة لهذا الوجود الضاري، فخاض محاورة فكرية حول الصراع العربي الإسرائيلي، ساعياً بما يمتلكه من ممكنات معرفية نحو تسليط الضوء على الأوهام الصهيونية، وتفنيد الأطروحات الماكرة، كاشفاً بوعي المتخصص عن عتمات وغموض وخفايا التاريخ المصطنع وتناقضات وأكاذيب السرديات الكبرى، والكيفية التي عمقت الوهم وجعلت الحقائق نهباً في كثير من المتخيلات التي تتوارى خلف أسيجة من القداسة الدينية، معززاً ذلك كله بالإحالة الى شتى المرجعيات التاريخية المعتبرة وسواها من مخزون الذاكرة الثقافية.
تحصن المعموري في كتابة مقدمته بالبصيرة النافذة والخلفية الفكرية الراكزة، والتقط المرتكزات الأساسية لأطروحات بيريز السياسية، الساعية الى إضفاء شرعية على وجود هذا الكيان الاستيطاني عبر ما تؤسس له وتفرضه النصوص التوراتية، متوقفاً أمام الزوايا الحرجة التي حاول بيريز أن يتفلت منها، على شاكلة قداسة اللغة والمكان، وأقام محاورة مع المفاهيم الفكرية التي مثلت المورث اليهودي الديني/ والتاريخي، وما شيد بالاستناد عليها من استبناءات لاحقة، مؤكداً على أن لغتهم ليس لها عمق حضاري ولا حتى قداسة لأنها اشتقت سياقاتها ونظمت تشكلاتها اللسانية والنحوية كسياق للتواصل، فهي لغة تدوين دقيقة ولغة -ميثية- اشتغـلت عـلى المثيولوجيات والأساطير التي عـرفتها حضارات الشرق القديم، وتناول أيضاً في معالجته السياق التاريخي المؤثر على صياغة اللغة, موضحاً تفاصيل ارتحال اليهود من مصر عـبر سيناء إلى أرض فلسطين، متسائلاً عن ماهية لغـتهم المتداولة حين كانوا في مصر إن لم تكن المصرية؟ مبيناً بأن لغتهم ليست مقدسة ولا حاضنة للغات أخرى. موضحاً بأن وصف بيريز بكون اللغة العبرية لغة مقدسة، وأنها لغة الصلاة والتراتيل والعبادات، إنما يأتي تبريراً للاحتلال الصهيوني الذي طال أرض فلسطين، وبيّن المعموري بأن اللغة العبرية الحديثة ثلثها من العربية الحديثة، والثلث الآخر من الآرامية والعربية القديمة، والثلث الباقي من مفردات أوروبية حديثة من الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وبذا فقد خلق اليهود لغة سياسية هجينة وأعطوها صفة القداسة. وهكذا ظل المعموري مسترسلاً بما يمتلكه من مؤهلات في ردوده على موضوعة قدسية المكان كذلك، والادعاءات اليهودية بخصوص الهيلوكوست، وغيرها من المغالطات، معـتمداً في ذلك عـلى الحقائق التاريخية من وثائق ومدونات.
إن ما حققه هذا المبدع في مختلف الميادين الثقافية والأدبية يدفع الى المفاخرة، فقد توزعت اشتغالاته على مجالات القصة والرواية والموروث الشعبي والدراسات النقدية والميثولوجية، وتجلت غزارة في عدد مؤلفاته الذي عبر حاجز الأربعين، وهي المتسمة من حيث نوعية المحتوى بالابتكار والمغايرة والجدة، والبعض منها تمثيلاً للمحاولة الثقافية راودت مناطق بكرية، وفتحت ثغرة على مسارات غير مطروقة، ومما لا ريب فيه أنها ستخلد على مر الزمان وتعاقب الأجيال، وهنيئاً للثقافة العراقية، وفخراً للحلة والحليين بك يا صديقي ، وبمنجزك الممهور بماركة مسجلة (صنع في الحلة).