رواية عبده خال (ترمي بشرر)..

تنوعات التأويل وجماليات المكشوف
ناجح المعموري
القسم الثالث
ويرجعنا ذلك الى بدايات غير معلومة في ذاكرة البشرية، حيث التمسك باله كلّي القدرة قادر على الخلود والأبدية، وهو الذي أوجد نفسه بنفسه من دون معونة خارجية، فيكون البغاء ألذكوري تعبيراً عن نذر قرباني، أو بمنزلة أخوية ذكرية تليق بالإله المفترض وتستمد القوة والمدد الحياتي منه/ إبراهيم محمود / سبق ذكره/ ص46 أضفى المعبد في الديانات الأولى صفة الوظيفة المقدسة على بغاء الذكور وأتسع لهم المكان لممارسة وظائفهم وفي اللحظة التي انتقل فيها أللوط من المعبد/ المكان المقدس الى الحياة العامة لأسباب معروفة لها علاقة بتطور الثقافة والدين باتجاه التوحيد، صار بغاء الذكور مطارداً وملاحقاً بالقوانين وأقترن الشرج بالشيطان الذي أختاره. وأنا أعتقد بان اختيار الشيطان للشرج مكاناً هو له تهميش الفرج وتحقيره لأنه مرتبط بالمقدس ويحفز الرغبة المثلية، لأنه سيكون حاضراً فيها، ويدرب الجسد ألذكوري لاكتشاف المماثل، وربما يكون هناك سبب آخر، وهو مسعى الشيطان لجعل الجسد كله لذة. الشرج مكان الشيطان انحراف بدلالة الجنس المثلي الذي عرف العديد من المواقف ابتداء ببلاد الإغريق مروراً ببلاد فارس وبلاد الرافدين وأول من قال بهذا الرأي هو الأستاذ المفكر عبد الكريم ألخطيبي وأستقرأ إبراهيم محمود هذا الرأي وأضاف عليه « اللواط موافقة الذات، ارتحال المثيل الذي ينبئ بالدمار والهلاك والتفكك، ولابد من تلبيس الدير ابليسياً، فالدير بؤرة شيطانية أكثر من حالة ترميز، فهذا يعني بان الفرج مضاد له أي رحماني [ والرحمن لصيق بالرحم، والحرم] .
الشرج مقبرة مكانها المرافق الصحية. والشيطان مدفون فيها، المقابر موجودة كثيرة ومتنوعة وهي مفتوحة الأبواب، ليس كلها. الذاكرة مقبرة وفسلجة الجسم لها مقبرة، للقراءة مقبرة. وأختصر عبده خال المقابر كلها/ الحياة تحتاج دائماً لمقبرة تدس بها من انتهت من مضغه وهضمه كي يخرجه مرة أخرى على هيئة فضلة /ص384
المقبرة مكان متنوع الهوية، وخاضع للجماعات، تختاره مكاناً معرفاً بها وبتاريخها وما الشواهد الموجودة على القبور إلا دليل على هوية جماعية من الجماعات وتعبير عن التعاقد الاجتماعي والتحدري فيما بينهم. والمقبرة مكان أخير لأفراد الجماعة/ العائلات/ الأسرة، تحافظ عليه، وتبقى من العلاقات الدالة عليها ثقافياً وأعتبر جاك لاكان القبور أول علاقة على الحضارة وان اتخذت لها أشكالاً ومرّت المقابر بمراحل تطورية عديدة، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. وهي أيضاً زحم قرابي كبير لا يجوز اختراقه والابتعاد عنه، وللجماعات حكايات خاصة عن مقابرها، تستعيدها في مناسبات دينية أو في أيام زيارة المقابر المتعارف عليها. والحكايات المستعادة هي مرويات وذاكرة خاصة بالعائلة/ الجماعة ودائماً ما تكون ذات صلة بالماضي وتأريخ العائلة الذي يمثل رأسمالاً رمزياً لها. وينطوي هذا التأريخ على شفاهيات الشجاعة والقوة، البطولة والتضحية، الكرم/ والدفاع عن الشرف. من هنا أعطى عبده خال المقبرة اهتماماً في روايته « ترمي بشرر»ولأنها تدور حول حي الحفرة/ جهنم، فلا أن يكون للمقبرة وجود ضمن تفاصيل قصر السيد، حيث الدسائس وتصفيات علاقات شبكية. وعلى الرغم من استمرار وبقاء ذاكرة الجماعة حية عبر علاقتها مع السلف، الممثل لتراثها ورأسمالها، فإنها –الجماعة- وباللاوعي تدرك بأن الموت قطيعة واندثار ولابد للإنسان من مقاومة الموت من خلال الانبعاث والخصب، وهذا سبب جوهري لزراعة المكان المحوط بالقبر بالأشجار والزهور، تعبيراً عن ارتباط الجماعة بالحياة واستمرار تعاطيها لكل ما هو مساعد على تكريس علاقة الإنسان الحي بالآخر الميت الذي يشكل في أحيان كثيرة بطلاً أو إلهاً عند الجماعات والقبائل وخصوصاً الأفراد بخصائصهم الكارزمية .
والمقبرة في هذه الرواية، مكان تنوعي لم تشر الرواية الى وجود عزل بين ألموت مرتبط بالمكانة الاجتماعية الخاصة بهم لكنها- المقبرة- محمية والسياج دال على ذلك ويعبرلعي عن حدود الموت غير المسموح له بالتوسع .
المقبرة كشاف على المستوى الاجتماعي للمتوفى، شكل القبر وارتفاعه ومدورته الفارغة أو المزروعة، وقال الأستاذ حاتم الصكر « الدرس الأول المستفاد يتعدى مغزى المقبرة لمكان، درسه كثير من الظاهرتتين وتفحصوا دلالته « الهيتروتوبية» كما يسميها ميشيل فوكو، أي كونها مكاناً بديلاً، يبنيه الإنسان تمثيلاً لما لا يتحقق في الواقع أو في اليوتوبيات- المدن الفاضلة والمشيدة في الأحلام والتجريد النظري والفرضيات – فيكون الأموات مجاورين للأحياء توفيراً لاستمرار وجودهم في كون مخصوص، كان مكرساً للآلهة، تصوره المخيلة كملتقى ومعزل يتخذون فيه قراراتهم ويرسلونها الى البشر/ د. حاتم الصكر/ البانثيون العربي/ دبي الثقافية/ العدد6 آيار 2010
وما تثيره المقبرة في الرواية هو العلاقة الثنائية المسحوبة للماضي بين الحي والميت، علاقة تعاقد صداقي وعشقي مثل الذي كان بين طارق فاضل وعيسى الرديني الذي بكاه طارق وهو لا يعرف بالدور الذي أوقع مرام في فخ القصر وأيضاً العلاقة بين طارق وتهاني، ووليد وتهاني وكمال غظة وسهيرة. وأعتقد بأن مثل هذه العلاقة اعتيادية، على الرغم من إنها متوترة/ مشحونة بالمأساة، لكنها خالية من المبادلة الثقافية الموحدة بين الاثنين والتي تميز أحيانا بالتعاطي الثنائي/ المشترك لها هو اجتمات ثقافي، فيه محفزات واضحة لاستذكار الماضي الذي كان حاضراً .
والتردد على المقبرة استدعاء للسابق، لعلاقة كانت في يوم ما قائمة وتم التفريط بها، من قبل النسق الاجتماعي، وخسر فيها الأضعف وهي الفتاة. والعلاقة مع التاريخ / الذاكرة تنطوي على تمجيد، وهو ما يحتاجه الفرد، كي يجعل من الغائب أنموذجاً تتداوله مرويات، تساهم بصياغة ذاكرة شخص/ أو عاشق. إنها نوع من البطولة في تفاصيل التردد اليومي-كمال- على المقبرة ومعاينة محيط القبر وأشجاره وحقل زهوره .
اهتمت الجماعات بثقافة المقابر وتداولت كثيراً من العقائد والطقوس لخامن بها ومثل هذه الثقافة التراكمية صارت على مر السنين موروثاً، تغنيه العائلات وتطوره وتتعامل معه بوصفه إرثا مقدساً، لا يجوز المساس به ولمثل هذا المكان قداسة مستمدة من رهبة الموت واستراحة الميت في مكانه الأخير الذي يستدعي أهله دائماً وبالمناسبات ولأهمية المقبرة ومكانها أو أمكنتها الدالة على جماعات تحتاج لدراسة ظاهراتية خاصة بها لكن الأنثربولوجيا تحتفظ لها بثقافة واسعة وعميقة مكونة من المرائي الأمثال/ الحكم/ الزيارات/ الطقوس والعقائد والشعائر. ومن أمثال المقبرة ما قالته سعاد :
-اللهم رطب علينا قبورنا، كما بللت الشجر اليابس في الصحارى/ ص176 ويكشفه.
هذا المثل يأس سعاد الكامل التي لا تملك ما يساعدها على إطعام أولادها بعد سجن زوجها عشر سنوات عرفها طارق وأعطاها أربعة آلاف ريال وبعد ذلك طلبت منه أن يساعدها على إطلاق سراح زوجها الذي كان طارق يدق مسماره في ظهره .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة