الفساد الأكبر والفساد الأصغر

القانون، وحسب ما يعرفه المختصون والمتابعون للشأن القانوني والقضائي، لا يفرق بين المبلغ الكبير والمبلغ الصغير، فالذي يسرق عشرة آلاف دينار، كمن يسرق عشرة مليون أو مليار، فهو يحاسب الاثنين بالإجراءات نفسها ويطبق بحقهما المادة القانونية نفسها. لكن ما يحدث في البلد حاليا من عمليات فساد مقننة ومنتظمة، بعضها يمارس تحت عباءة القانون وبعضها خلافا للقانون، بمعنى أن هنالك عمليات فساد تجري على وفق مظلة القانون، إذ ثمة نصوص قانونية تمنح امتيازات مالية كبيرة وتسهيلات لفئات محددة، من دون وجه حق. وهناك عمليات فساد، تجري من عبر سرقة أو اختلاس المال العام. الفساد، وكما هو معلوم للجميع، ظاهرة خطيرة، وكبيرة، تتنامى بشكل مستمر، هي كالموج الذي يغزو سواحل الوطن، من دون أن يجد من يوقفه. تقارير وبحوث كثيرة، تتحدث عن أرقام مرعبة في حجم الأموال التي تهدر سنويا بسبب الفساد، الذي يعود إلى سيطرة أحزاب وكتل وجماعات على مؤسسات الدولة، وتقوم تلك الجهات بتسخير إمكانات تلك الدوائر والمؤسسات لمصالحها الخاصة.
بالمقابل، لا نجد ثمة نصوصا قانونية رادعة، زاجرة، قادرة على وضع حد للفساد والفاسدين، لا نجد نصوصا اسهمت برمي الفاسدين خلف القضبان، حتى الدستور نفسه، يمنح الوزراء واعضاء مجلس النواب، حصانة دستورية، عبر وضع اشتراطات لمحاسبة الوزراء والنواب، حين خالف مبدأ المساواة الذي نص عليه الدستور نفسه في المادة 14 منه أمام القانون، عندما أوكل أمر محاسبة الوزراء للمحكمة الاتحادية، ومنح النواب حصانة لا يمكن محاسبتهم قضائيا، وللأسف لم يشرع لليوم قانون للمحكمة الاتحادية يفعّل دورها الجزائي في محاسبة الوزراء وأعضاء السلطة التنفيذية، في وقت يفترض فيه أن يشدد الدستور على محاسبة المسؤولين، مهما كانت مواقعهم، من دون عوائق قانونية ودستورية. ولولا قرار مجلس النواب الأخير، القاضي برفع الحصانة عن كل نائب متهم بالفساد، لما تمكن القضاء، من اتخاذ أي إجراء قانوني بحق أحد من النواب. الفساد على مستويات، وأعلى مستوى فيه، هو الأكثر من غيره وهو المتسبب بهدر الأموال الطائلة سنويا، ويمارس من قبل جهات عليا متنفذة في مؤسسات الدولة، وهذه الفئة من الفاسدين، لا يصلهم مد القانون، فدائما ما نجد أرجلهم يابسة، في حين أن الفئات الأخرى، وهي فئة الموظفين الصغار الذين يقعون في أخطاء إدارية، كعدم تقدير العقارات تقديرا مناسبا، أو عدم اتخاذ اجراء قانوني في مسألة إدارية، أو غيرها من الأفعال التي لا تشكل نسبة أمام قضايا الفساد الكبيرة التي أنهكت خزينة الدولة، وسببت تراجعا كبيرا في الأداء العام للدولة وما تقدمه من خدمات.
ونظرا لسهولة إحضار تلك الشريحة من الموظفين، وعدم وجود قوة ضاغطة تقف إلى جانبهم، نجد أنه يتم اتخاذ أقسى العقوبات بحقهم، سواء في مرحلتي التحقيق أو المحاكمة، في حين أن الشريحة الأولى، محصنة، لا يصلها أحد. لذا نجد أن مكاتب التحقيق التابعة للنزاهة، تغص في القضايا من النوع المذكور، حيث تسيّر الى محاكم النزاهة يوميا عشرات المتهمين في قضايا لا تشكل قيمتها ما نسبته 1% من قيمة القضايا المسكوت عنها. إن مكافحة الفساد، ليست بكثرة الدعاوى والمتهمين، فيمكن للنزاهة، أن والقضاء، أن ينشغلوا بقضية واحدة، لمتهم أو مجموعة متهمين تسببوا في هدر الكثير من الأموال، أفضل من عشرات القضايا التي تشكل خروقات إدارية لا قانونية، وبالإمكان معالجتها إداريا ومن خلال الادارة وليس عن طريق القضاء، الذي يجب أن يتفرغ للقضايا المهمة وليس للقضايا الصغيرة.

سلام مكي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة