الدكتور مصطفى جواد.. عالم اللغة الذي صار أستاذ الأجيال

رحل في مثل هذا اليوم قبل خمسين عاماً

حسين محمّد عجيل

لم يشهد العراق في عصره الحديث شخصيّةً ثقافيّة شغلت النخب والرأي العامّ معاً، كالعلّامة اللّغويّ والمؤرّخ الشهير الدكتور مصطفى جواد (1906-1969)، ثمّ تلميذه عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي (1913-1995). فقد نجح الأستاذ وتلميذه على اختلافهما في الاختصاص والمنهج والتوجّهات، نجاحاً باهراً في مساعيهما لنقل عناصر المعرفة المعقّدة كعلوم اللّغة والتاريخ والخَطط، وعلم الاجتماع، إلى الجمهور العامّ فضلاً عن المثقّفين، لتكون مواضيع نقاش وجدال في البيوت والمقاهي وحافلات النقل العامّ، كما هي في المحافل الثقافيّة والمؤتمرات العلميّة وأروقة الجامعات.
كان اللّقاء الأوّل بينهما في مدرسة الكاظمية الابتدائيّة نهاية العشرينيّات، واستذكر علي الوردي صلته بأستاذه الجليل بعد أيّام من رحيله، قائلاً: «إنّي أحمل للمرحوم العلّامة الدّكتور مصطفى جواد ذكريات طيّبة. ومن هذه الذّكريات أنّني كنت تلميذاً له في مدرسة الكاظميّة الابتدائيّة عام 1927، ولا أزال أحتفظ في دفاتري القديمة، باعتزاز، ما كتبه لي الدّكتور الرّاحل بقلمه بيتين من الشّعر. وقد ظلّت علاقتي معه علاقةَ التّلميذ بأستاذه منذ ذلك الحين حتّى طواه الرّدى».
ولذلك اقتفى التلميذ خطا معلّمه الفذّ، ذاك الذي فتحت له رحلته إلى باريس (1934-1939) للحصول على الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون، آفاقاً معرفيّة وتجربة حياة مذهلة، مع فرصة الاطلاع على ما للإعلام الإذاعي من قدرة على التواصل مع جمهور أوسع من جمهور الكتاب والمجلّة والصحيفة، فقدّم بعد عودته إلى بغداد عدّة برامج إذاعيّة، كان أوّلها وأبرزها برنامجه اللّغويّ الشهير (قل ولا تقل)، في وقت كان تلميذه منشغلاً في الحصول على الماجستير ثمّ الدكتوراه من جامعة تكساس الأمريكيّة. ثم قدّر لهما أن يلتقيا معاً ضيفين مزمنين في برنامج (الندوة الثقافيّة) الأسبوعيّ، الذي كان يُقدّم من تلفزيون بغداد ابتداءً من سنة 1958، وواصل مصطفى جواد ظهوره المؤثّر فيه حتّى قبيل وفاته.

عصر مصطفى جواد
لقد كان مصطفى جواد- الذي يصادف اليوم الثلاثاء 17/12/ 2019، الذكرى الخمسون لرحيله، من دون أن تقوم مؤسّسات الدولة بإحياء هذه المناسبة كما تفعل الأمم الحيّة لكبار رموزها- ظاهرة ثقافيّة قلّما شهد العراق مثيلاً لها، فكان واحداً من أئمّة اللّغة العربيّة في القرن العشرين، وحارساً لها، اشتغل عقودا وأجهد سنيّ عمره كلّها في أن تسودَ في الحياة اليوميّة كما في التّعليم والإعلام وأداء الطّقس الدّينيّ، حتّى تداولت الأفواهُ في تعصّبه لها الطّرائف والحكايات الموضوعة وغريب النّوادر.
إنّ الحديث عن ظاهرة مصطفى جواد، يستعيد بالضرورة عصراً ذهبيّاً كاملاً بروّاده في كلّ مجال وتخصّص وفنّ، ويستحضر خصب قضاياه، ووهج نهضة وتقدّم، وآلام انكسارات شهدتها البلاد عبر عقودها التي عاشها، وكان مصطفى جواد في صميمه. فقد كان يمثّل حلقة رابطة ملهمة طوال القرن العشرين بين أكثر من جيل، بينهم كوكبة من أساتذته وأترابه وتلامذته، فعراقيّاً كان امتداداً لجميل صدقي الزّهاوي وأنستاس الكرملي ومعروف الرّصافي وطه الرّاوي ومحمّد رضا الشّبيبي، ومكمّلاً لمحمّد مهدي البصير وجواد علي وأحمد سوسة وجواد سليم وطه باقر، ومعلّماً لعلي الوردي وفيصل الثّاني ومحمّد مكيّة ونازك الملائكة وعلي جواد الطّاهر وعبد الوهّاب البيّاتي… وآلافٍ سواهم ممّن خرجوا من معطف مصطفى جواد. وفي دائرة تحرّكه الأوسع، عربيّاً، كان دائم التّأثّر والتّأثير في حلقة واسعة من كبار أدباء عصره وكُتّابه، ونخبة أعلامه ومثقفيه. وتتسع دائرة تأثيره وتأثّره عالميّاً لتشمل أدباءً وكتّاباً ومفكّرين، غالبيّتهم من المشتغلين بالتّراث الفكريّ العربيّ والإسلاميّ، وفيهم نخبة من عظماء المستشرقين، أمثال: أساتذته الفرنسيّين في جامعة السوربون: لويس ماسنيون، ووليام مارسَيْه، وديمونبين، والألمان: بول كرواس، وفريتس كرنكو، وهالكه، والأسبانيّ غارسيه غومز.

منجز نوعيّ ثرّ
لم يكن التّراث الضّخم الذي خلّفه مصطفى جواد، بوصفه واحداً من أبرز مثقفي الرّعيل الثّاني من أعلام النّهضة في العراق الحديث، قاصراً على حقل واحد من حقول المعرفة، فقد استثمر كلّ سني عمره ودقائق حياته في العمل الثّقافيّ المنتج، منذ بواكير شبيبته الأولى، حتّى آخر أيامه في عالمنا، حين شوهد أكثر من مرّة ينهي أبحاثاً وكتباً وهو على فراش مرض الموت، فكان لغويّاً فذّاً مشهوداً له بالبراعة والاجتهاد من مجامع اللّغة العربيّة في بغداد ودمشق والقاهرة، ومرجعاً في اللّغة العربيّة وآدابها وفنونها في عصورها المتلاحقة، ومؤرّخاً يرجع الجميع إلى علمه وحكمه، وخَططيّاً لم يسبق لبغداد أن عرفت نظيراً له، وعلاوة على كلّ ذلك كانت له إسهامات ومشاركات أدبية ومعرفيّة أخرى، فكان مترجماً عن الفرنسيّة والإنكليزيّة، وباحثاً في الأدب الشعبيّ، ومحقّقاً رائداً لكتب التّراث ونقدها.
وفضلاً عن عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة في الحقول التي اشتغل فيها، فإنّه كتب المئات من المقالات والأبحاث والدّراسات في أهمّ الدّوريّات العراقيّة والعربيّة منذ العشرينيّات من القرن الماضي حتّى وفاته، ونسبة غير قليلة منها يمكن عدّها كتباً، لذلك عمدت بعض دور النّشر مؤخراً إلى استلالها من مظانّها ونشرها في كتب.
ولمكانته العلميّة الكبيرة التي برزت بعد عودته من باريس، أنيطت به مهمّةٌ حسّاسةٌ وذات قيمة رمزيّة كبيرة، هي تعليم الملك الصّغير فيصل الثّاني في السّنوات 1943-1948، وتزامن مع ذلك شروعه في تقديم برنامجه الإذاعيّ «قل ولا تقل». وهو برنامج أعدّه وواظب على تقديم عشرات الحلقات منه، تناول في كلّ حلقة منه مجموعةً من التّصويبات اللّغويةّ، لما شاع من غلط في أقلام الكتّاب.
ومكانته العلميّة هذه أهّلته لينتخب سنة 1947عضواً في المجمع العلميّ العربيّ بدمشق (حالياً مجمع اللّغة العربيّة بدمشق)، ثمّ عضواً بالمجمع العلميّ العراقيّ سنة 1949، فنائباً لرئيسه، عند تجديد تشكيله سنة 1963، وانتخبه أعضاء مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة عضواً فيه سنة 1967 وبالإجماع، لكنّ السياسة تدخّلت لتغيّر قرار الأعضاء، وفرضت اسماً آخر، «وقد بلغ ذلك مصطفى جواد وهو في بغداد فآلمه الخبرُ ألماً شديداً»، كما يقول صديقه مير بصري.

لنُحيي آثارَ الخليل!
إنّ استذكار مصطفى جواد ألزم من ضرورة اليوم، واللغّة العربيّة تواجه محنة كبرى في البلاد التي كتب الخليلُ بن أحمد الفراهيدي فيها أولى معجماتها: «العين»، وألّف تلميذُه سيبويه فيها سِفْرَه التّأسيسيّ: «الكتاب»، وظهرت فيها المدارسُ النّحويّة، ونُسبت لأمّهات مدنها: البصرة والكوفة وبغداد، التي شهدت العربيّةُ في ربوعها قروناً من التوهّج، وخلّدتها آلافٌ من ذخائر الكتب والأسفار في العلوم والفنون والآداب والفلسفة… وضعها علماء عراقيّون، ومَن لاذَ بهم لتحصيل العلم من جهات العالم الأربع.. وقد كان مصطفى جواد مدركاً منذ وقت مبكّر لهذا الدّور الذي قدّر له ولأبناء جيله أن ينهضوا به، حين كتب يوم 10 حزيران 1932 رسالةً من بغداد موجّهة إلى أستاذه وصديقه أنستاس الكرمليّ- الذي كان في القاهرة يومها- يقول فيها «لنُحيي آثارَ الخليل والكِسائيّ والرُّؤاسيّ والمُبَرّد وثَعْلَب وقُطْرب وابن السّكّيت الشّهيد والمازنيّ ونفطويه والمرتضى والأخفش والزّجّاج والأصْمَعيّ وابن جنّيّ وغيرهم من العراقيّين». وهو نفسه من تلمّس بوادر محنة العربيّة هذه مرّات، وتوقّف عندها مليّاً، واجتهد في أن يضع مشروعاً ينهض بها، ويتفادى به مصيراً مؤلماً لها.

وقفة أولى: كيفيّة إصلاح العربيّة
وأشير هنا إلى ثلاث وقفات له في هذا المجال تكتسب أهميّة تاريخيّة. والغريب أنّ ما يبعد بين هذه الوقفات مدّةٌ زمنيّة ثابتة. كانت أولاها في شباط 1931، حين تصدرّت مقالتُه المطوّلةُ: «كيفيّة إصلاح العربيّة» الجزءَ الثّاني من المجلّد التّاسع من مجلّة (لغة العرب) البغداديّة. وقد استهلّها بالحديث عمّا أصاب اللّغة العربيّة من جمود بسبب الجدل العقيم بين علماء العربيّة في العصور الغابرة، وما جناه دارسو اللّغة ومتعلّموها والنّاطقون بها، جرّاء ذلك، من اضطراب شديد في قواعدها ومفرداتها وعلومها، ولا سيما النّحو والصّرف، وضرب أمثلةً كاشفةً عن هذا التأثير السّلبيّ، ما جعل اللغة وفق رأيه: «مباءةً للتّخليط، والعبث، والتّصادم، والتّناقض، فواحدٌ منهم يثبت شيئاً، وآخرُ ينقضه ويُنكره، وهذا يستفصحُ كلمةً، وذاك يستقبحها؛ بل تجدُ إنساناً بعينه يبيح لنفسه القياس في أمر ويحرّمه على آخر في وقت آخر، وهو هو».
وضمّت هذه المقالة خلاصة ما توصّل إليه من آراء بشأن إصلاح طرائق تعليم اللّغة العربيّة، ووصف حالَها وما يرجوه من مآلها، عقب تجربة أدبيّة ثريّة واصل فيها التّحصيل الذّاتيّ والبحث والتّنقيب في بطون الكتب المطبوعة والمخطوطة، وبعد تجربة تعليميّة أثراها بتتّبع الخلل في طرائق تدريس العربيّة، وتفحّص المناهج التّعليميّة المختصّة بها، وسقطاتها ومحاولة سدّ نواقصها بتأليف منهج يعتقده الأكثر تكاملاً والأنسب لأذهان التّلاميذ، وكان قد أمضى ست سنين في تدريس العربيّة بالمدارس الابتدائيّة، ولذلك تعدّ هذه المقالة من أبرز ما كتبه في مجال إصلاح اللّغة العربيّة وأنضجها حتّى ذلك الحين، ولا يمكن لايّ باحث يدرس تطوّر منهجه اللّغويّ، وجهوده التّربويّة في إصلاح تعليم اللّغة العربيّة، تجاوز هذا المنجز المبكّر المهمّ، المنشور في مجلّة متخصّصة باللّغة العربيّة، يديرها ويُشرف على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها، واحدٌ من أكبر حرّاس العربيّة، السّاعين إلى تطويرها وتيسيرها وتحبيبها إلى النّاطقين بها وغيرهم، أعني به الأب أنستاس ماري الكرملي.

وقفة ثانية: مبحث
في سلامة العربيّة
وعقب مضيّ 19 عاماً على تلك المحاولة المبكّرة، كتب في العدد الأوّل من مجلّة (المجمع العلميّ العراقيّ) الصّادر في الأوّل من أيلول 1950، بحثاً معمّقاً في جزءين بعنوان (مبحث في سلامة اللّغة العربيّة)، عرض فيه آراءً له قيّمة في هذا الموضوع الشّائك، يمكن عدّها منهجاً قويماً صالحاً للأخذ به اليوم.
وقال في مستهلّ بحثه كاشفاً عن الخطوط العريضة لمنهجه في مجال إعادة الاعتبار إلى اللّغة العربيّة: «كتب كثيرٌ من الكتّاب في وجوب سلامة اللّغة العربيّة، والحفاظ عليها من الغلط واللّحن وسوء التّركيب ورداءة الاستعارة ونبوّ غيرها من المجاز، وصنّف منهم جماعةٌ في هذا الموضوع رسائل يعرفها كلّ مَن عنى به، ولكنّهم كانوا بين مُجيدٍ ومقصّر، ومتساهلٍ ومتحجّر، ومتقلّل ومتكثّر. وقد ثبت أنّ التّحجّر الشّديد دليل على التفخّر والدّعوى العريضة التي لا بيّنة لها، وأنّ التّساهل الكثير دليل على قلّة العلم أو التّفصّي من تبعة الغلط، وكلاهما مضرّ بالعربيّة».

وقفة ثالثة: قل ولا تقل!
وبعد مرور 19 عاماً أخرى على محاولته الثّانية، كتب مصطفى جواد قُبيل وفاته نهاية سنة 1969، في مقدّمة الجزء الأوّل من كتابه «قل ولا تقل»، خلاصةَ تجربة أربعة عقود ونصف من المتابعة والتتبّع لمشكلات اللّغة العربيّة، كاشفاً عن الوهن الذي أصابها بسبب عبث بعض النّاطقين بها، وتزمّت بعض المعنيّين بإصلاحها، وتهاون المؤسّسات المناط بها حمايتها. وهي وثيقة تاريخيّة تبيّن منهج مصطفى جواد في هذا المجال.
لقد نشر مصطفى جواد هذا الكتاب وهو يصارع الموت في أواخر أيّامه، على الرّغم من أنّه كان قد قال لتلميذه وصديقه صبحي البصّام، حين سألُه قبل عامين من وفاته، إن كان نوى جمع تصحيحاته في كتاب مطبوع: «هيهاتِ!، فإنّ الغلط في اللّغة قد فشا فُشُوّاً ذريعاً، فلا سبيل إلى تلافيه بـ «قل ولا تقل» ولا بغيرها».
لم يفتأ الدّكتور مصطفى جواد خلال رحلته المعرفيّة الحافلة، التي دامت نحو نصف قرن من الزّمان، يقدّم الأحوجَ والأقيمَ والأمثلَ من العِبَر لوطنٍ وأمّة يحاولان أن يستعيدا مكانتهما في عالم يقفز قفزاً في ميدان التّطوّر، ثمّ واصل- من خلال تراثه المرجعيّ الضّخم- هذا الدّور الثّقافيّ التّنويريّ حتّى اليوم، وستظلّ جذوته متّقدة إلى زمان طويل قادم، فكان الرّجل الفذّ، ولم يزل، مستحقِّاً أن تُسجِّل البلادُ إسهامته الثّريّة هذه، بوصفه واحداً من أبرز خالديها، وبناة نهضتها الحديثة، وأستاذاً لأجيال من مبدعيها، ومن المُلُهِمين لأجيال جديدة مقبلة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة