البصريات.. في ديوان «الشعر امرأة» لعلياء سروجي

نهى الزركاني

تنوب الصورة عن الكلمة عندما تكون الصورة أكثر قدرة على أداء ما عجزت الكلمة عن أدائه والعكس هو الصحيح .
وفي زمن ما بعد الحداثة الذي شهد تقدما إلكترونيا ومساحة لا يستهان بها للسوشل ميديا، أصبح للصورة دور مهم وسلطة عليا بعد أن تفوقت حاسة البصر في تلقي النص على جميع الحواس الأخرى، وهذا ما فطن له الأدب، فاستعان بتقنيات الفنون البصرية في معالجة صوره وافكاره من خلال توظيف اللون في تشكيل مزاج القارئ، أو الفراغ على الورقة البيضاء ونقش الحروف وعلامات التنقيط.
قد توسلت سروجي تلك الأدوات بتناغم تام مع ثيمة الديوان التي تأرجت بين ألم وأمل متمثلة الواقع العربي وصراعات الساعة، ومخاض الأرض التي أنهكها الطلق.
يفتتح الديوان أولا بخطاب للظلام تحت عنوان: (أيها الظلام) وفي الوقت نفسه تنقش مفردات ذلك الخطاب على صفحة تلونت بالأسود لتشكل مزاج القارئ ولتخلق مزاجا يستشعر عناده وهي تخاطبه باحثة عن كل تلك الأشياء الجميلة التي تلونت بسواده من خلال تلك الدلالات التي خلقها مرتبطة بالسياق:
«أيها الظلام»
أيها الظلام
من أين تأتي بالعناد؟
أخفيت حبات الكرز
أخرست قططي البريئة
أين عصفور واعدني خلسة؟
أين أقحوانة احتلت ساعدي؟
أسئلة متتابعة، تبعث على الذهول، لم توظف سوى علامة الاستفهام لإثارة حس التعاطف مع الفقد الذي تشكلت من خلاله العبارات، ألفاظ تتحدث عن أشياء خاصة تحيل على ممتلكات أكبر:
الليلة خلعت أساوري العاجية
وألقيت خاتمي الفضي أمام
الصيادين
لتشغلهم رائحتي
عن غزال خبأته في سرتي
أطعمته أغاني أمي التي تعرف أني
كبرت البارحة
مع حمل كان يرافقني إلى المراعي
ورغم الظلام، مازال هناك الكثير من الأشياء الجميلة التي تختبئ خلف تلك الأوجاع التي استدعت النهار مخاطبة إياه على صفحات بيض، بعدما اشتدت حلكة الظلام:
«أيها النهار»
أيها النهار
كلما سرق الكناري اللؤلؤ من محارتي
كشفت الضياء عن البحر
كأنها تستعين بالضياء والبياض لتنجو من الظلام والسواد، بل كأنها تستدعي الضياء وتستنهضه ليخوض معركته مع الظلام وتداعياته التي اصطبغ بها كل شيء.
تتصاعد نغمة التحدي من خلال استحضار التراث النسوي لنساء كان لهن تاريخ في مقارعة الظلم فضلا عن أسمائهن اللامعة في مجال الأدب وشتى العلوم:
سافو ,بيليتيس, هيباتيا, جان دارك , فرجينيا , شهرزاد
تتصدر تلك الأسماء قصائد في الديوان تتعالق بخيوط خفية مع العتبة الأولى (العنوان) الذي يقرر بأن الشعر امرأة دون أي علامة تنقيط تلتحق به لتمنحه تأويلا آخر غير أن يكون الشعر امرأة.
في انتظار فراشة تحط فوق شوكة
يابسة
في انتظار ألم يعادل الأرض
في انتظار موت ما
أجلس لأقص ضفائري أمام البحر
هناك أشياء أهم من الشعر الطويل
يستحضر ذلك الانتظار سربا من الفراش الذي يؤثث تفاصيل الانتظار بشيء من الأمل، فالصورة في صفحات الديوان أخذت دورها كما أخذ اللون دوره. فكلاهما يؤدي ماله وما عليه في تضاعيف النص. أضف إلى ذلك انسحاب اللغة المحاذية للغة المكتوبة، علامات الترقيم التي تهب للنص رمزية وتشكلا يوحي بتأويل ما .
غابت تماما عن النص فأعطت للفراغ الذي شغله النص لغة صامتة داعمة للنص المكتوب.
يمنح ذلك الغياب لغة تقريرية للنص:
أيها الموت
أيها الموت
نتجمل لتتخير أحلانا
ويسقط العالم زهرة فوق كتف الله
نتجمل كي ننساك
تزيد عشقا فنزيد ضياعا
يستيقظ الكون على فقدنا
يقرر النص بتميز المرأة وقيمتها إلى جانب كل الرموز التي مرت بوصفها أيقونة للعطاء عبر التاريخ. وفي الحقيقة فإن المرأة هنا محتمل أن تكون رمزا لأوطان ضائعة. فلطالما مثلت ألأم الوطن لثباتها واستقرارها في البيت، وهي الآن تصارع الحزن والموت والنحر والظلام في آن. ولكنها تنتصب مقاتلة تقارع كل ذلك الألم فتتأرجح بين ظلمة ونور، وتساؤل وتقرير:
تغتسلين في حزن من الخمر
أكثر فاتنة ترقص فوق دمها
تلهمين الملاك أن يكون حارس المشيئة
وتدلين الشيطان إلى منتهاه
ومع كل ذلك الصراع والتحدي وشهرزاد التي تنقلت بحنكتها بين المفردات والصور والالوان المتنافرة، وصمت التأويل الذي غيبته علامات التنقيط تقرر أخير على الرغم من هذا أنها الحب , الحب الذي يهزم كل يأس , ليكون دليلا في متاهات ذلك الضياع السرمدي الذي غطت به البشرية منذ أزل الوجود:
الحب تلك الفراشة التي قسمت
جبهتي إلى نصفين
والبحر الذي أبعد رئتي لمرور السفينة
محملة بالهدروجين
فهو الاحساس الأزلي الذي يضمن للمرء أنه مازال على قيد الوجود.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة