الشوك والتكرلي في قبان الجزائري

جمال كريم :

كتب زهير الجزائري بصحيفة المدى البغدادية مقالاً استذكارياً لمناسبة رحيل الكاتب علي الشوك.والجزائري الذي يتسارد مع الاحداث والامكنة والشخصيات بتلقائية فذة والتقاطات حياتية جاذبة قلما يحاذيه أحد من اقرانه ومجايليه في مهارة الالتقاط والاسترسال السردي المنساب الذي يجعل من المتلقي يشعر كأنه يتمشى معه على تلك الاحداث وبين تلك الامكنة، ويشاركه مجالسة وحوار الشخصيات،والمقال حديث هذه الاسطر يجعلك بأمتياز تعيد الى ذهنك ومخيلتك وذاكرتك بغداد وليالي مسامراتها،و شارع الرشيد ومقاهيه وشخصياته الثقافية والفكرية المهيبة سنواتئذ،بل يجعلك تتحسس مفارقة وتلاقي جيلين من الاسماء الادبية والفنية على مفترق مصارع السياسة وهبوب تيارات الغرب الفكرية والادبية والفلسفية. تلاق في وقت كان الذات على هاوية تمزقها جنباً الى جنب مع تمزق نسيج المجتمع عامة،فالصراعات السياسية الدامية التي تفننت بصناعة الموت والتمثيل بالجثث في النهار كما في الليل وفي البيوت كما في الشوارع والطرقات،أنتجت تلك الذوات المنكفئة والهاربة الخائفة حتى صار تغليف الذات والحفاظ عليها هدفا وجودياً جوهرياً،مثلما انتجت جيلاً يرتاب من سابقه ،وجيلاً آخر يستنكف بتعالٍ من لاحقه.
ربما لم يكن يتوقع السارد المحترف زهير الجزائري ان مقاله عن الراحل علي الشوك سيثير جدلاً بين عدد من الاصدقاء وبخاصة بشأن وحدة سردية ذات محمول أدبي وعاطفي نفسي في الحين ذاته،فقد جاء من بين ماجاء من ملتقطات الجزائري السردية الحاذقة البناء والحدث والتذكر ما نصه» بغياب فؤاد سألت علي الشوك عن التناقض في مواقف فؤاد التكرلي كيف قبل عام 1963 وهو قاض ،ان يصدر احكاماً على اصدقاء شيوعيين ،كانوا الى ماقبل انقلاب شباط زملاء له في الادب والموقف.كان جواب علي هو انه يمارس مهنته كقاضٍ.كيف يمكن ان تنفصل المهنة عن الضمير.بقي هذا السؤال مثار حيرتي وانا احتفي برجل يبكي حين يسمع أوبرا.LA Travitta.كان علي يدافع عنه بحرقة «لقد انقذ حياتي».فيما -شكا-فيما بعد لي بلوعة من أن فؤاد طوال فترة وجوده معه لم يقل له كلمة واحدة عن رواياته مع انه قرأها جميعا.».
أرى ان زهيراً في هذا النص المتشعب الاستذكارات والحيوات والامكنة والمواقف ،صانع ماهر لمركبه السردي ،واسسه الوجودية،وهو هنا ايضاً السائل والمناور والمتعاطف والمتقاطع والناقد وهو المجيب ايضا.فالسؤال عن موقف التكرلي القاضي ،وليس الروائي السارد ،انما يشي عن تقاطع جلي وواضح وظاهر بقوة من خلال اختيار الوقت المناسب للسؤال بغياب التكرلي ،ومصوغة السؤال التي تكشف موقفاً تقاطعيا مع موقف التكرلي القاضي لا الكاتب الاديب.وأقطع ان الشوك الذي حطّمت روحه،وكسّرت ذاته وكيانه ساعات التعذيب البعثية الباطشة التي اركعته معترفاً، ادرك ذلك فجاءت اجابته مختزلة, عاطفية، واهنة ،محيلة المتلقي الى الشك في الكيفية التي انقذ فيها حياته،فيما هو قاض ويمارس مهنته حين اصدر احكاماً على بعض اصدقائه من الشيوعيين!!!!!
من هنا راح يوسوس في»عبي»،ما وسوس في «عب» الجزائري هناك قوله آنئذ :»في هذه الشقة الزاهدة زاره صديق قديم من العمر والطبقة نفسيهما هو فؤاد التكرلي .كانت هذه الزيارة حدث بهيج-حدثاً بهيجاً-في حياة علي والحديث عن الرواية التي تعذرت على الاثنين لسنوات-سنوات-..فقد بدد فؤاد التكرلي سنوات طويلة من التردد قبل ان تصدر روايته (الرجع البعيد).وضيّع علي الشوك عشرين عاماً يبحث عن مدخل للرواية،يقرأ الروايات بنهم فيعلو المثال ويزداد ابتعاداً عن كتابتها .يتعذر عليه الموضوع مرة ،ثم تتعذر عليه الشخصية او يفلت منه الجزء المفقود الذي يشد القارئ.يبحث عن التجربة في خارجه،لانه يفتقد التجربة في داخله ولايريد ان يمس الدملة المؤلمة في تجربته الخاصة، لذلك ينحي المثقف الروائي ويستولي عليه فيغرق الرواية باستطرادات ثقافية .ولم تكن الرواية ابنة الثقافة وحدها ،انما هي ابنة الحياة في المدينة بتنوع وتعارض شخصياتها.وكانت حياة علي ضيقة ومحدودة يصفها»انا لم اذهب أبعد من كرادة مريم،وباب المعظم ،او ربما الاعدادية المركزية منذ ولادتي حتى العام 1947».وبعد هزيمته الروحية عام 1963 تحاشى الكتابة عن تجربته السياسية..وصار يتحدث عنها بحذر».
بهذا المختزل يصنف الجزائري وبذلك الانطباع التلقائي ايضا، التكرلي القاضي روائيا،والشوك اكاديمي الرياضيات ،والباحث في التراث واللغات والادب والموسيقا،روائياً ايضاً.لكن هل كانت تجربة التكرلي الحياتية اكثر ثراء وتنوعاً من حياة الشوك خاصة وانهما ابنا الطبقة ذاتها؟؟؟ .لا اظن ذلك بالمطلق ،سوى ان التكرلي لم تنل منه هزيمة مثل هزيمة الشوك الذي آثر ان يعبر بهزيمته حدود البلاد المهزومة وهي بلاده من دون ظن او اعتقاد.وفي النهاية مات التكرلي قاضياً وظل شاخصه السردي القصصي والروائي اوسع قراءة وانتشاراً ،فيما مات الشوك مدرساً وظل شاخصه التنوعي في الكتابة والبحث والثقافة راجحاً على شاخصه السردي الروائي الاقل قراءة وانتشاراً مقارنة بالتكرلي محدود الانتاج الروائي.
ليس هذا كل منطبعي ورأيي.لكنني في المختتم اشعر انه لا يمكن لي أن أتردد من اضافة ان الجزائري لم يكن في نصه سارداً تلقائياً ،ومستعيداً مستذكراً فحسب، بل كان رائياً وشاهداً وحاكياً،وناقداً ،وضع الاثنين في قبانه،وقال كلمته بحق الاثنين ولم يمض.
بقي ان نستعرض بعض منجز الراحلين،كيما نستجلي سبب الرجحان بينهما في قبان السرد والقص والحكي عن تلك الحياة وذلك المنقضى من الاحداث والحروب والنكبات والمحن التي مشى عليها ولفها مر الزمان.

من بين ما كتب الراحل علي الشوك (بغداد 1930- لندن 2018):
في المباحث :الاطروحة الفنطازية،تأملات في الفيزياء الحديثة،الثورة العلمية الحديثة وما بعدها، أسرار الموسيقى،الموسيقى بين الشرق والغرب،كيمياء الكلمات،جولة في اقاليم اللغة والاسطورة،الكتابة والحياة.
وفي الرواية: الاوبرا والكلب ،رسالة من امرأة ليست مجهولة،موعد مع الموت ،فرس البراري (اعترافات امراة)،فتاة من طراز خاص،تمارا،أحاديث يوم الاحد.
من بين ما كتب فؤاد التكرلي (بغداد 1927-عمان 2008):
في الرواية : الرجع البعيد ،خاتم الرمل ،المسرات والاوجاع ،اللاسؤال واللاجواب.
م.قصصية. ،الوجه الاخر،موعد النار، خزين اللامرئيات.
وكتب ايضا حواريات «الصخرة،حواريات «الكف»،وكتاب «حديث الاشجار».

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة