حاوره: كه يلان محمد
لا تخلو عملية الكتابة من القلق والهواجس الداهمة، وقد يكون الأمر مع كتابة الرواية أكثر مدعاة للتوتر، بما أنَّه عالم لا يمكن اقتحامه دون وعي مسبق بأدواته وخصوصياته، كما تتطلبُ الدراية في صنعة هذا الفن تراكماً معرفياً بتطور صيغه وأشكاله، لذا يحتاج الروائي إلى امتلاك الحس النقدي لحيثيات الحرفة وتفاصيلها الدقيقة. هذا فإنَّ التجربة الذاتية تتحول إلى منجم ينهلُ منه الروائي مادته حيثُ يمرّرُ كل ذلك من خلال مراوغة النص ومكر السرد.حول تجربة الكتابة ومستوى حضور الذات في العمل الإبداعي كان لنا حوار مع الروائية الليبية كوثر الجهمي التي صدرت لها رواية «عايدون» من دار الساقي
كيف كانت علاقتك بفن الرواية قبل أن تبدأى بكتابة نصك الروائي الأول ؟
عرفت الرواية أول مرة حين كنت في المرحلة الإعدادية، البداية كانت مع «جين آير» و «نساء صغيرات»، أُخِذت بسحر تشكيل المشاهد كاملة في رأسي، تخيل الأصوات والروائح في المشاهد المكتوبة، أُخِذتُ بمتعة امتهان الإخراج في دماغي واستمتعتُ باللعبة، أحببتُ قراءة تفاصيل الملابس والحركات، شعرتُ بأني أستطيع السفر بدون تذكرة، لا فقط عبر المكان، بل عبر الزمان أيضًا، وعبر الزمان تحديدًا، هذا أكثر ما أحببته في الروايات. انتقلت بعدها وفي تلك المرحلة العمرية بشغف نحو حجم أكبر من الروايات، بدأت بـ «البؤساء» ولم أنهَ المجلد الأول! لم أستطع! انتقلت بعدها لأحدب نوتردام وكدت أصاب بالاحباط لولا عثوري على «الأرض الطيبة»، رغم حجمها وفرادة نصها وتعرفي للمرة الأولى على بعض من تاريخ الصين وتعقد كل هذه الأمور مجتمعة على طفلة في ذلك العمر؛ إلا أني انتهيت منها، لا أذكرها الآن، ولكني أذكر جيدا الشعور بالفخر والاعتزاز عندما انتهيت منها وخرجت بحصيلة معرفية وعاطفية والأهم من ذلك لفظية. وهكذا كان الأدب الكلاسيكي المترجم هو بوابتي لعالم الرواية، ونقلة من عالم القصص المصورة وحكايات «المكتبة الخضراء» و»الليدي بيرد»، مازلت أشعر بالامتنان لللأخوين «البعلبكي» على تراجمهم الأنيقة والرائعة!
بعدها بسنوات ثلاث تقريبا، تعرفتُ على الأدب العربي، وكان هذا عالمًا أشد فتنة في نظري، لأني كنت أعرف -تقريبا- عم يتحدث كتاب عالمنا العربي، وكنت لا اتردد في الرجوع لوالديّ إن تطرقتْ الرواية لحدث تاريخي في دولة شقيقة لم أُلمّ بمعرفته، انجذبت لأدب المقاومة وأدب القومية (شعرا وقصة ورواية)، إذ كان معظم كبار الأدباء العرب متأثرين بهذا الفكر، فتشربته، وتأثرت به أيما تأثر، ربما هذا ما كان يدفعني على حداثة سني إلى الانخراط في المسيرات وكتابة الأشعار والخواطر عن فلسطين، ولاحقا عن العراق.. لم أكن أعلم ان السلسلة ستطول أكثر للأسف! هل ما زلت متأثرة؟ جزئيا نعم، فما نقرأه خلال شبابنا المبكر، تبقى بصمته مختومة على أفكارنا بشكل أو بآخر، ما حدث ان أفكاري تبلورت، وصُقلتْ، واتخذت منحنيات جديدة وإن بقي جوهرها ثابتا.
هل تأثرت في تجربتك الأولى بأعمال معينة أو صادفت حدثاً شعرت بأنه لا يمكن التعبير عنه إلا في الشكل الروائي ؟
تأثرت جدا جدا بغادة السمان، كنت -ومازلت- أحاول جمع كتبها كما يفعل هواة جمع الطوابع، لا هذا وحسب، بل حرصت على إعادة قراءة الكثير من كتبها كتعويذة، كمقويات أغذي بها عقلي. تأثرت بأسلوبها في السرد، تأثرت بلغتها ونمط تفكيرها، لقد قلبت عالمي، بعد غادة تجرأت بجموح على تجربة كتابة الشعر النثري، وبعض القصص الخجولة، حاولت تقليدها، أولم نفعل جميعنا ذلك في البداية!؟
كنت أتخيل الحب وأكتب عن أحداث ومواقف لم أمر بها؛ ولكن الوضع العربي المتأزم في بداية الألفية الجديدة مع انطلاق الانتفاضة الثانية ثم غزو العراق دفعني للكتابة فقط عن الأوطان، وعن العار، وعن الخذلان والتهاون، واتبعت أسلوبا قاسيا في جلد الذات! كنت منجرفة بطريقة أحسد نفسي عليها الآن!
يرى بعض النقاد أن ماتدور حوله الرواية الأولى عبارة عن سرد لتجربة ذاتية وسمي هذا النوع برواية التكوين هل يتمثل عملك الأول لهذا التوصيف؟
لا للأسف، إذ ان حياتي عادية جدا، ربما لهذا السبب حين قررت يوما استعمال اسم مستعار في الكتابة اخترت «سيدة عادية»؛ ولكني إستعنت في تأثيث شخصياتي بمواقف حصلت أمامي مرارا لأصدقاء أحببتهم، وأقارب أعتز بهم، وأطعمت صورة طرابلس بما أحمله عنها من ذكريات الطفولة رفقة بنات الجيران، سيما وأني كنت مقيمة في نفس الامكنة التي أقام فيها أبطال روايتي الأولى «عايدون».
هل تعتقدين بأنَّ سر وراء تصاعد الإصدارات الروائية يكمنُ فيما يوفره هذا الفن من الحرية في إطار أوسع لتناول المفاهيم الإجتماعية والفكرية والسياسية وتراخي سلطة الرقيب في عالم الرواية؟
يميل معظم الناس لسماع القصص، هم لا يحبون المواعظ، ولا يفضلون الألغاز، لهذا لطالما كان تأثير القصص جبارا في تكوين شخصية الإنسان، ومنظومته الأخلاقية، والسمو بروحه فوق سطحية الوجود المادي للإنسان على وجه الأرض، والرواية وفرت مساحة رحبة، لتناول التفاصيل القصصية على مهل، وتصويرها، وتحريك مخيلة القارئ، ومنحه فرصة للتأني والتأمل والسكون في زمن متخم بالضجة والعجالة؛ لهذا -ورقيا- يبقى جمهورها -حسب اعتقادي- أكبر من جمهور مجموعات القصة القصيرة، حيث الاختصار والسرعة. أما سلطة الرقيب فهي موجودة حسب ظني على قدم المساواة، تختلف فقط بين بلد وآخر.
هل تعتقدين بأن الورشات الخاصة بكتابة فن الرواية تزودُ المشاركين فيها بأدوات صنعة هذا الفن ماذا عن تجربتك في هذا المجال؟
نعم، أؤمن يقينًا بأن ورش الكتابة ستوفر على الكتاب النُشء كثيرا من الجهد والوقت الذي نال من قدامى الكتاب والأدباء، والتكنولوجيا توفر هذه الورش والتدريبات بصورة شبه مجانية، رغم شح هذا الجانب عربيًّا. بالنسبة لي، لم يتسن لي المشاركة في أي ورشة مُخصصة لكتابة الرواية، لعدم وجود صاحب الخبرة المؤهل لإدارتها في بلادي، فروائيونا الليبيون المعروفون، بين مهجر خارج البلاد او داخلها أو مقيم خارجها بمحض إرادته منذ سنوات طويلة، كُتابنا الناشؤون في عزلة عن المخضرمين في هذا المجال، ربما لو تسنى لي حضور ورشة كتابة للرواية في بلد شقيق سأحاول ملء هذا الفراغ ولو على نطاق ضيق، إذ أن بيئتنا حاليا خصبة بالأقلام الواعدة.